كَلِمةُ صاحِبِ الغِبطةِ
يوحنا العاشِرِ
بَطريركِ أنطاكيةَ وَسائرِ المَشرِقِ
البلمند 13 شباط 2013
أبنائي وأحبائي،
جِئْتُكُمْ وَقَلْبي إِليْكُمْ وهوَ يُلامِسُ قُلوْبَكُمْ الَّتي السَّيْدُ ساكِنُها. وَإنِّي أَشْكرُكُمْ مِن صميمِ قَلبِيْ على هَذا الاستقبالِ الحارِّ في أوّلِ زيارةٍ لي إلى البلمندِ بَعدَ حَفل التَّنْصيْبِ. وَأشْكُرُ بشكلٍ خاصٍّ، سيادةَ الأسْقُفِ غطّاس على كَلِمَتِه الطَّيبَةِ، كَمَا أَشْكُرُ كُلَّ واحدٍ مِنْكُمْ على حُضورِهِ وَمُشارَكَتِهِ. فرَحي اليومَ عظيمٌ بلقاءِ الأحِبَّةِ وَهَذِهِ الوُجوهِ الطَّيبَةِ، وَكَمْ يَطيبُ اللِّقاءُ عِندما يَكونُ في البَلمندِ.
أيُّها الأحبّاءُ،
أنا آتٍ إليكُمْ مِن دِمَشْقَ، مِنْ حَيْثُ اهتَدَى بُولُسُ الرَّسُولُ إلى المَسِيْحيَّةِ وانْطَلَقَ مِنْها إِلى سَائِرِ أنْحاءِ العَالَمِ. أنا آتٍ مِنْ أنطاكِيَةَ العُظْمى لِتَرْسيخِ كُلِّ ما هو حَقٌّ وَعَظِيمٌ فيْ حَياةِ الإِنسَانِ. جِئْتُكُم اليَوْمَ إلى لُبْنانَ، البَلَدِ الحَبيبِ، وَاسْمُه مُشتَقٌّ مِنَ البَياضِ تَيمُّناً بِثُلوجِهِ الَّتيْ تَكْسُوْ قِمَمَهُ الشَّامِخَةَ. عسَى أنْ يَعُوْدَ البَياضُ صُنواً لِلُبنانَ مِنْ خِلالِ بياضِ القُلوْبِ، وَصفاءِ النُّفوسِ، حَتَّى يَرجعَ لُبْنانُ وَيَبْقى كَما عهدْنَاهُ خَمِيْراً لِلْعَيْشِ المُشتَرَكِ، لِلْمحَبَّةِ وَلِكلّ ما هُوَ خَيرٌ وَحَقٌّ.
وَنحنُ اليَوْمَ هاهُنا، فَوقَ هَذِهِ التَّلَّة فيْ البَلَمَندِ! الَّتيْ يَغْسِلُ البَحْرُ اللَّامُتناهِي قَدَمَيها وَيَحْرسُها أَرْزُ لُبْنانَ، الذِيْ تَغَنَّى بِهِ الأنْبياءُ والَّذيْ أصْبَحَ رَمْزَاً لِثَباتِ لُبنانَ وُقوَّتِهِ واستِمْرَارِهِ على مَرِّ العُصُوْرِ. فَأحَيِّيْكُم مِنْ هِذهِ النَّسَماتِ الطّيِّبةِ، مِنْ صَوْتِ أجْراسِ قُبَّةِ البَلَمَنْدِ الَّتِي تُعانِقُ السّماءِ، مِنْ بَخُّورِ كنيسةِ الدَّيرِ الجَميِلِ، مِنْ هُدُوءِ الطَّبيعَةِ الخَضراءِ، مِنْ نَسيْمِ تَراتِيْلِ جَوْقَةِ مَعهدِ القِدّيسِ يُوحنّا الدّمَشقِيِّ اللاهُوْتِيِّ ومِنْ قَلبِ جامِعَةِ البَلمندِ الشّامِخَةِ.
لقَدْ شَهدَت هذهِ التَّلةُ نَهضَةً رُوحِيِّةً وَعلْميّةً وعُمْرانِيَّةً. والفَضْلُ فِي ذَلِكَ يَرجعُ، بَعدَ اللهِ، إِلى المُثلَّثِ الرّحَمَاتِ البطْرِيْركِ إِغناطيوسَ الرَّابعِ. لَقَدْ آمَنَ الرّاحِلُ الكَبيرُ بِأهمِّيَةِ التّنشئَةِ الدينيَّةِ والتَّربَويَّةِ فحوّلَ هَذا الدَّيرِ إِلىْ مَنارةٍ أَنْطاكِيَّةٍ، وَكانَ أوَّلَ عَميْدٍ لِمعْهَدِ القِدِّيْسِ يُوحَنَّا الدِّمشْقِيِّ اللّاهوتِيِّ، ثمَّ أحْيَى ثانويَّةَ سيِّدَةِ البَلَمَنْدِ، كما أسَّسَ، وَفيْ أحْلَكِ أَيّامِ لُبْنانِ، جامعةَ البَلمَنْدِ، وهيَ أَوَّلُ جامِعَةٍ أُرثُوذكسيَّةٍ فيْ العالَمِ. أَسَّسَها هَديةَ الكنيْسَةِ الأُرْثوذكسيَّةِ إلى لبْنانَ، والمَشرِقِ العَرَبيِّ.
أَيُّها الْأَحبَّةُ،
أتَيْتُ إِلىْ الدَّيرِ والمَعْهَدِ والجامِعَةِ طالِباً، وَمِنْ ثَمَّ أُستاذَاً، فَعَمِيْداً، وَرَئِيْساً للدَّيْرِ. ويَسُرّنيْ أَنْ أَكُوْنَ أوَّلَ بطريركٍ يقدِّمه هذا المَعْهَدِ البَلمَنديُّ إلى الكَنِيْسَةِ الأنطاكيَّةِ. وإنَّ كُلَّ مَنْ خَدَمَ وَتَربَّى وتَعَلَّمَ فيْ البَلَمنْدِ، يُلازِمُهُ التَّوقُ الدَّائِمُ لأَنْ يَجِدَ الطَّريْقَ إِليْهِ مِنْ جَدِيْدٍ. وَأنا أَشْكُرُ اللهَ وَإِخوَتِيْ المَطارنَةَ في المَجْمَعِ المُقَدَّسِ بِأَنِّي وجدْتُ الطّريْقَ اليوْمَ مُجَدَّداً إِلى البَلمَنْدِ كبَطريرْكٍ لأنْطاكيةَ.
وأنتُمْ، يا أهْلَ الكُوْرةِ الكرَامَ، لَقَدْ جَسّدْتُمُ الإيْمانَ الحَقَّ بِعَمَلكُمْ وَعِلْمِكُمْ فَطُوبى لِمَنْ عَمِلَ وَعلَّمَ. وَمُبارَكَةٌ هيَ شجرةُ الزَّيتونِ التِي بَارَكَها الكِتابُ المُقدَّسُ، والّتِيْ أخَذْتُمْ مِنْ زَيْتِها وَثِمارِها الخَيْرَ والبَرَكَةَ فكانَتْ فِعْلاً جُزْءاً مِنْ كَرْمِ الرَّبِّ الذي يقولُ لنا فيْ الإنْجيلِ: "يا بُنَيَّ إذهَبْ اليوْمَ واعْمَلْ فيْ كَرمِي". (متى28:21).
أيُّها الأحبَّةُ،
مِنْ مُنطلَقِ كَونِنا أكْبَرَ كنيْسةٍ مَسيحيَّةٍ فيْ المَشْرقِ العَرَبيِّ، سَنُكملُ السَّعْيَ إلَى الوحْدةِ المَنْشُودَةِ بيْنَ المسيحيِّيْنَ كيْ نشْهَدَ مَعَاً لِلْمَسيْحِ والكَنِيْسَةِ. وَسنَعْمَلُ دائماً مَعَ إِخوتِنا وَشُركائِنا فيْ الوَطَنِ مِنَ المُسْلِميْنَ مِنْ أَجْلِ توطيْدِ وَإِرْساءِ أُسُسِ العيْشِ المُشتَرَكِ الكَرِيْمِ، والحُرِّيَّةِ والمواطَنَةِ والمُساواةِ. أَوَلَسْنا جميعاً: " إمّا أخاً لَكَ فيْ الدِّيْنِ أوْ نَظيْراً لَكَ فيْ الخُلْقِ؟" وَحتَّى يَتمَّ هذا في لُبْنانِنَا العَزِيْزِ يجبُ أَنْ أذَكِّرَكُمْ يا أَبْناءَ كنيستِنا الأُرثوذكسيَّةِ، أنَّنا لَسنَا تَكَتُّلاً طائِفِيَّا ضيِّقًا وَمُغلَقًا. وَحتَّى لا نقعَ فيْ هذهِ الخطيئةِ نسْعى انْطلاقًا مِنْ إيماننا مَعَ كُلِّ اللُّبْنانيِّيْنَ لنُؤَلِّفَ وَطناً واحدًا لا يَرضى أنْ يُمْلى عَليْهِ شيءٌ مِنَ الخَارِجِ بَلْ يُنعشُه الصالِحُونَ مِنْ أَبْنائِه وَيتكاتَفُونَ خِدمَةً لَهُ وولاءً لَهُ وَحْدَهُ.
هَذا يَدفَعُنا إلى أن نَكوْنَ جماعَةَ فَهْمٍ وَعِلْمٍ ودِراسَةٍ وعَطاءٍ، جَماعةً واعِيَةً ما ينْبغِي أنْ تُعطيَ لكَيْ تَزيْدَ الوَطَنَ إخلاصًا لِأبنَائِهِ بِلا تفْريْقٍ. حقوقُ المُواطِنِ اللُّبْنانِيِّ ستَكونُ همَّنَا لأنَّنَا لا نَزْدهِرُ وحْدَنا. بغيتُنا انتعاشُ الجميْعِ فيْ وحْدَةٍ لُبنانيَّةٍ مُتَراصَّةٍ.
نَحْنُ لا نبْغِيْ فِي هَذَا الوَطنِ تَمايُزاً. إِذْ لَسْنا لِأَنْفسِنا وَلكِنْ للمواطنيْنَ جَميعًا. لا نسْعَى إلى مَقامٍ فَريْدٍ لَنا فِيْ الأُمَّةِ إذْ نعْمَلُ لكُلِّ شَرائِحِها، وإنّه لَيُفْرحُنا تقدّمُ كلِّ شريحةٍ اجتماعيةٍ لأنَّ الأمّةَ تَحْسُنُ بكلّ شَرَائِحِها. الرِّيادَةُ الرُّوْحيَّةُ أَو الفِكرِيَّةُ تَأتِي حَيْثُ الرُّوحُ يَشاءُ وَنَحْنُ لسْنا مِنْ كُتلةٍ بَشريةٍ فَقَطْ بَلْ مِنَ الرُّوحِ.
إنَّنا مَدْعوُّوْنَ أنْ نصيْرَ عُظماءَ بِاللهِ، فَهُوَ وَحدَهُ جَمالُنا وقُوتُنا، وَبهِ وَحدَه نُوجَدُ ونَتمايَزُ ونَرْتقيْ فوْقَ اللَّحمِ والدَّمِ. وَهذا الارْتقاءُ هوَ ما نُقَدِّمُه للوَطنِ هَديَّةً ونَرْفَعُهُ إلى اللهِ قُربانًا.
إذا صِرْنا كِبارَاً نُكوْنُ قدْ أتْمَمْنا سَعْيَنا ساهريْنَ على أَنْ نَحْفَظَ تَواضُعًا يُقيْمُنا فِيْ الرِّفْعَةِ. لا تَنْسَوا أَنْ لا رِفْعَةَ إلّا في استقامَةِ الرَّأيِ وإِفْناءِ حياتِنا فيْ مَحبَّةٍ تَشْمَلُ الكُلَّ. نَحْنُ خُدَّامٌ لِكُلِّ أبْناءِ هَذا الوَطَنِ علىْ غِرارِ الَّذيْ قِيْلَ عَنْه: "ما جاءَ ليُخدَمَ بَلْ لِيخدِمَ وَيَبْذلَ نَفْسَهُ فِداءً عَنْ كثيريْنَ". ليْسَ مِنْ إِنسانٍ خُلِقَ عَظيْمًا. يُصْبحُ كَذلِكَ إذا بَذلَ نفسَهُ عَنِ الإِخْوَةِ. مَنْ ماتَ يَحْيَا. مَنْ أحَبَّ يَحيا ويُحيِيْ لأَنَّ مَنْ أَحَبَّ، ابْنًا لِلقيامَةِ يَكونُ. اذْكُروا أَنَّ كُلّ حَيِّ يأْتِيْ مِنْ قيامَتِهِ. وَاجْعلُوا الذِيْنَ حولَكُمْ لا تَنْبَعثُ منْهُمْ رائِحَةُ المَوتِ.
وفيْ النِّهايَةِ، مِنْ هُنا، مِنْ البَلَمنْدِ، منْ تلّةِ المَحبَّةِ والإيْمانِ والعِلْمِ والعَيْشِ المُشتَرَكِ، أدْعوْ الجَميْعَ في أَوطانِنا المُعذَّبةِ أنْ نبْنيَ جُسوْراً مِنَ المَحبَّةِ لأنَّ شرَّ ما يَسْكُنُ القَلْبَ الحِقْدُ وَلأَنَّ الرَّبَّ يؤَكِّدُ أنَّ المَحَبَّةَ تأتيْ أوَّلاً فَهِيَ أمُّ الإيمانِ وَأُمُّ الفَضائِلِ كُلِّها، وهِيَ، كما يَقولُ الآباءُ، أعْظَمُ مِنَ المَعْرفةِ وحَتَّى منَ الصَّلاةِ.
وَنقوْلُ لِلْجميعِ كَما وَرَدَ فيْ سفرِ التَّثنيَةِ (13:25): "لا يَكُنْ لَكَ فيْ كِيْسِك أوزانُ مُختلِفَةٌ كَبيْرةٌ وَصَغيْرَةٌ ولَا يَكُنْ لكَ فيْ بيْتِكَ مَكاييْلُ مُخْتلفةٌ كبيْرةٌ وصغيْرةٌ". حَسَنٌ أنْ يَكونَ مِكيالُنا فيْ هَذَا الوطنِ مِكْيالاً واحِدَاً للْجَميْعِ، قُوامُهُ الإيْمانُ وَالمَحبَّةُ والتَّضْحيَة وقبُولُ الآخَرِ وإِرْضاءُ وجْهِ اللهِ. وَهذا يَفترِضُ، أنْ نُولَدَ كُلَّ يَوْمٍ بِروْحِ الرَّبِّ، الذيْ يَرانا نَلتَهبُ بِنارِهِ فَنَجعلَه نورَاً يجدِّدُ النَّاسَ، علَّنا ندْحرُ بِذَلكَ عَنْ دنْيانا العَتماتِ، وَيُصْبحُ لُبنانُ وهَذا الكَونُ قائِماً مِنْ بيْنِ الأَمواتِ.
وفَّقَكُمْ اللهُ وسَدَّدَ خُطاكُمْ وجَعلَكُمْ دائِمِاً مُتكاتِفيْنَ فِيْ المَحبَّةِ والأُخُوَّةِ والسَّلامِ.