بيان صادر عن بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
دمشق، 23 تموز 2014
في الوقت الذي مازال فيه جرح سوريا نازفاً منذ أكثر من ثلاث سنين ووسط جروح العراق الذي اختبر مآسي الصراعات منذ ثمانينات القرن الماضي والقلاقل التي تجتاح كثيراً من الدول القريبة والبعيدة ووسط ركون العالم إلى جرح فلسطين الذي لم يندمل منذ ما يقارب السبعين عاماً، نشهد، في هذه الأيام خصوصاً، جرحاً مضاعفاً يتمثل بتهجير مسيحيي الموصل واستباحة غزة وسط صمتٍ دوليٍّ معيب.
وكأن دوامة العنف التي تجتاح العراق وسوريا والتي هجرت الكثير من المواطنين الآمنين لم تكف، فأتت الأحداث الأخيرة في العراق وفي الموصل بالتحديد لتكمل مسلسلاً من القتل والتكفير والإرهاب. ندين بشدة التعرّض لأيّ طيفٍ من أطياف هذا المشرق ونستنكر بشكل خاص التعرض للمسيحيين في الموصل وإجبارهم بقوة السلاح على تغيير معتقدهم تحت طائلة فرض الجزية أو هجر البيوت ومصادرة الممتلكات. إن هذه الحركات الأصولية، والتي تسعى أن تكون دويلات بمنطق القوة وترهيب الآخر وبدعم ماديّ ومعنويّ من الخارج، هي أخطر ما تكون على إنسان هذا المشرق وعلى العيش المشترك في رحابه. نطالب المجتمع الدولي وهيئة الأمم المتحدة بالتحديد وكل القوى والمنظّمات العالمية النظر بعين الحق إلى ما يجري في العراق والموصل وكل منطقة الشرق الأوسط، ونهيب بهم التعامل بشجاعة مع هذه الأوضاع الراهنة بلغة الإنسانية الحقّة لا بلغة المصالح التي تستخدم مبادئ الحقوق الإنسانية وتطوعها خدمةً للمآرب والمصالح الضيّقة. كما نطالب الدول التي تؤمّن الدعم الخارجي لهذه الحركات، مباشرة أو بشكل غير مباشر، بالوقف الفوري لكل أشكال الدعم المادي واللوجستي والعسكري والمعنوي لهذه الحركات المتطرفة وقطعِ دابر الإرهاب الذي هو خطرٌ أولٌ على شعوب وسلام تلك الدول أولاً. كما ندعو للكفّ عن اللجوء إلى كل شكل من أشكال العنف كوسيلة تعامل بين المواطنين.
نحن في بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، إذ نؤكد دوماً أن المسيحيين والمسلمين هما رئتان لجسد مشرقيٍّ واحد، يقوم على المواطنة والعيش الواحد، نرفض كل ما من شأنه أن يسيء أولاً لسمعة الإسلام السمح الذي اختبرنا وإياه طيب أخوّةٍ وسلام عيشٍ، وأن يعطِّل ثانيًا حق المواطنين بممارسة حضورهم الوطنيّ بعيدًا عن أيّ ضغط فئويّ، مذهبيّاً كان أم عرقيّاً.
ووسط تفرّج العالم على ما يجري في الموصل، هاهو مسلسل العنف يتكرر في قطاع غزة تحت مبررات عدة وسط صمتٍ دوليٍّ مريب. كلّ ذلك والعالم الخارجي يكتفي بالتفرج على حمام الدم الذي لم يوفر أطفالاً ولا شيوخاً ولا نساءً. وكأن هذا المشرق قد أمسى مختبراً لفعالية كل أنواع الأسلحة وأرضاً خصبة تمر عليها كل المؤامرات. وكأن إنسانه سلعةٌ تجارية خُلقت لتكون عجينةً في يد قوى الظلام، وهو المخلوق ليكون صورة البهاء الرباني ومحط مرضاة الخالق بحسن العلاقة مع الأخ في الوطن والإنسانية.
نحن في بطريركية أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، ندرك وحدة المصير التي تربطنا مع إخواننا في فلسطين من مسيحيين ومسلمين، ونطالب المجتمع الدولي وقفَ آلة النار في غزة ورفع الحصار الآثم عن إخوتنا في فلسطين، الذين تبقى قضيتهم قضية البشرية بامتيازٍ ويبقى تشبّثُهم بأرضهم وتوقُهم للعودة إليها مبعث أملٍ لكل معذّبٍ في هذا المشرق ووصمةَ عار في جبين من تقف "حقوق الإنسان" عندهم عند روابي فلسطين، في حين تُجيَّرُ هذه "الحقوق" ويُتاجَر بها للتدخل في شؤون شعوب أخرى.
نصلي إلى الله أن يعطي العالم السلام وأن يقوي كل من هم في ضيق ويديم سلامه في المشرق لتنعم الإنسانية بالخير والطمأنينة.