البـــيان المشتـــرك
الصـــادر عن بطريـــركيّــــتَي أنـطاكية وسـائر المشـرق
لكنيســـتَي الروم الأرثـــوذكس والســـريان الأرثـــوذكس
بمـــناســـبة مــــرور عامَـــين على خـــطـــف
مـــطرانـَي حـــلب
صـــاحــبَي الســــيادة بـــولـــس (يـــازجـــي) ويــــوحـــنّا (إبـــراهـــيم)
بتاريخ 22 نيسان 2013
دمشق
في22 نيسان 2015
"على رجـــاء قـــيامـــة الأمـــوات أنـــا أحـــاكَــــم" (أع 23، 6)
بولس ويوحنّا في محاكمة؛ وقفا مرّة في بداية البشارة المسيحيّة، ويقفان مرّة أخرى اليوم، في البقعة الجغرافية عينها، وإن اختلفت التسميات. إنّها محاكمة قلَّ نظيرها، ليس فقط في الشرق، بل في عالمنا المعاصر. ارتداداتها لم تصبْ الأرضيّين فقط، بل اقحمت السماء أيضاً، في نزالٍ الغلبةُ فيه للديّان العظيم، الذي له الحكم الأخير في هذه القضيّة، قضيّة الإنسان الحقّ وقضيّة الإله الحقّ.
لربّما هذه المحاكمة غير متكافئة، فأغلب الظنّ أنّ الموقوفَين لا يسعهما المرافعة في قضيّتهما. ولكن هوذا خطابُهما البيّن، وقد سطّراه بروحَيهما وحياتهما وشهادتهما المستمرّة دون انقطاع، يصدح ويتردّد في بريّة هذا العالم:
يا إخوةَ الكلمة، أنتم أبناءَنا في حلب، زرَعْنا بينكم وفيكم بذار كلمة الحقّ وكلمة الشهادة وكلمة الخدمة. هوذا الزرع ينمو! نراه فيكم ونفتخر بثماره. نعجب لصمودكم الذي يعزّز صمودنا. نبهت لثباتكم الذي يؤازر ثباتنا. نجلّ صبركم الذي يكافئ صبرنا. كيف لا، وأنتم إكليل "مجدنا" و "افتخارنا" (1 تس 2، 19؛ 20) في محاكمة البشارة.
يا إخوةَ الإيمان، نُمتَحن بما آمنّا به وبشّرنا به وخدمناه باليد والقلب والضمير؛ أنّنا نعيش اليوم على الأرض لنحيا بعدها في السماء، وأنّ الإنسان يحقّ له أن يؤمن بالإله الحقّ ويخدم بهذا الإيمان "قريبه كنفسه". إيماننا بالإنسان الحقّ يدفعنا إلى خدمته أينما حللنا، ولا زلنا حيث نحن اليوم مقيمون. لن نحيد عن هذا العزم قيد أنملة وهو يستحقّ منّا كلّ تضحية دفاعاً عن كرامة هذا الإنسان بتقزيمه وتشييئه في سوق الإنسانيّة المعاصر الذي يعرضه سلعة في مضاربات أثيمة. بهذا انكسرت شوكة التقزيم الرخيصة في محاكمة الكرامة.
يا إخوةَ الرجاء، لا يخفَ عليكم أنّه إنّما نحاكَم على "رجاء قيامة الأموات" (أع 23، 6). صرخها بولس مرّة، وها نحن نقولها بالفم الملآن: يريدون أن يفتكوا بالآتي على حساب الآني، وهم لا يعلمون أنّ ربّ السماء والأرض إنّما خلق هذه وتلك لنقطع المسافة التي تفصل بينهما بروح الإيمان ونبلغ إليه بما أوتينا من رجاء بتحقيق وعده لنا. إنّ هذه الحياة لفانية وأمّا تلك فباقية، ونحن نرنو بكلّ جوارحنا أن تبقوا على هذا الرجاء أمام الموت الرابض إزاء أجسادكم وأرواحكم ليهلكها. إلاّ أن رجاءنا بقيامة المسيح قد كسر شوكة الموت في محاكمة الثبات.
يا إخوةَ المحبّة، لا شكّ أن انتصابنا في محاكمة كهذه لا يستقيم إلاّ إذا انبرى لها المرء بحقيقة هويّته وإيمانه. لذا يعزّ علينا أن نخون محبّة المسيح لنا، ويعزّ علينا أيضاً أن تَظلُم القلوب والضمائر إلى درجة يسهل معها انتهاج درب النزوات وكلّ أشكال الأنانيّة البغيضة. نراكم يا إخوة فتثلج قلوبنا بمرأى محبّتكم وسط ركام إنسانيّة انحدرت بها وصوليّتها إلى أبواب الجحيم بكلّ ما للكلمة من معنى. بالمحبّة تغلبون كلّ شيء، وبها تجتازون كل أشكال الموت إلى ملكوت إله المحبّة. وسط الدمار والموت والعبث، يعلو بناء محبّتكم كحكْم مبرَم في محاكمة الضمير.
يا إخوةَ الدم، أنتم الذين حُكم أو سيُحكم عليهم، منكم مَن أخذ حُكْم ربّه شهيداً أو معترِفاً، ومنكم مَن يعيش شهادة رجاء منقطع النظير، في صمت أو تهويل، في هوان أو ضيق. إلاّ أنكم بجلادتكم قد أفحمتم المراهنين على خيانتكم أو ارتدادكم أو انخذالكم أمام ضعف أو ترغيب أو ترهيب. دمكم، سواء النابض أو المسفوك، بلسم لعوائلكم وإخوتكم، وختْم انتصار في محاكمة الخلود.
يا إخوةَ الحقّ، خسئ كلّ مَن أعلن نصرته على حقّ في الظاهر، هو باطل في الخفاء. بعيون القلب نراهم، ونسبر ما يظهر منهم في العلن، في كلامهم وأفعالهم، كما وما يضمرون في السرّ، في ضمائرهم. لن يعلو حقّ على حقّ الله وحقّ الإنسان مهما كثرت الآثام. هذه هي صرخة يوحنّا فينا جميعاً: "مَن لا يحبّ أخاه يبقَ في الموت. كلّ مَن يبغض أخاه فهو قاتل نفس" (1 يو 3، 14-15). لن نساوم على الإنسان، ولن نذعن لغير الحقّ. نقولها معكم، في صلب معاناتكم، بصمودكم وكفاحكم وشجاعتكم. بهذا فضحتم ضلالهم المبين في محاكمة الحقيقة.
يا إخوةَ الوطن، جرحكم جرحنا، وعذابكم عذابنا، وألمكم ألمنا، ودموعكم دموعنا، وحياتكم حياتنا. أيادينا مفتوحة لكم وقلوبنا تتّسع لكم. هيّا بنا نتصافح ونتخاطب ونتسالم ونتصالح ونتفاهم ونتعاون ونتكامل. الحلّ لا يأتي بالعنف على أشكاله، بل بالحوار على أنواعه. الخوف أن يفنى الإنسان وتندثر حضارته متى طال زمن المحاكمة. معكم نرفع راية الشراكة في محاكمة الوحدة.
يا إخوةَ المصير، شرقنا؛ نحن رمال صحاريه، تراب سهوله، صخور جباله، مياه أنهاره، وجذور أشجاره. إن زالت، لا يبقَ للحياة وجود أو معنى. بات شرقنا حلبة مفتوحة لكلّ سوء. رهان هذه المحاكمة هو هدم الحياة في مهدها، تحطيم توهّجها في حضاراتها، إزالة معالمها في مكوّناتها، إخفاء بصماتها في آثارها، تهجير إنسانها في تاريخها، ومسْخ الله في أديانها. مدى غلبتنا في الحقّ على الأرض نستمدّه من السماء، ولكن ليس باستدعاء الإله لتسخيره، كرمى لنزواتٍ، السماءُ منها براءٌ! نحن واعون أنّنا مكرَّسون للبقاء في هذا الشرق الذي ننتمي إليه ونحن منه؛ فيه نشهد لإيماننا، ومنه تنطلق شهادتنا، وعليه نبني صرح إنسانيّتنا. لم يكن الإله الواحد بالنسبة لنا موضوع خلاف ولا علّة اقتتال ولا سبب انقسام. تعلّمنا أن نخاطبه "أبانا" (متى 6، 9)، لذا فالجميع بالنسبة لنا "إخوة". يمكننا أن نخاطب الجميع بالحقّ والمحبّة، و "أن نضع نفوسنا" لأجلهم (1 يو 3، 16)؛ ويمكننا أيضاً أن نطالبهم ونسائلهم، فحقّنا عليهم أنّ مصيرنا واحد، نتعهّده معاً أو نخسره معاً! لا يمكن أن يتحوّل المؤمن، أيّاً كان، وحتّى غير المؤمن، في هذا الشرق أو خارجه، إلى شاهد زور بتعاميه عمّا يجري. معكم نرفع راية الأخوّة وبها نقطع دابر شاهدي الزور في محاكمة الإنسان والدِّين.
يا إخوةَ الإنسانيّة، باتت قضيّتنا أبعد من جماعة، وأكبر من وطن، وأوسع من منطقة. محكّنا هو محكّ الإنسانيّة في عالمنا المعاصر، بحكم تشويهها، خدمةً لمصالح ومآرب متنوّعة. نحن شاكرون لكثيرين ممن يعون هذه المخاطر ويعملون على احتوائها ومعالجتها ودرئها. لن نتحوّل عنواناً لقضيّة يُطالب بحلّها وفكّ أحجيتها، فلسنا كذلك. فأنتم قضيّتنا! نحن ساهرون من مكان إقامتنا على ضمائر الذين يريدون الاستمرار بالفتك بقضيّتنا: قضيّة الإنسان الحقّ وقضيّة الإله الحقّ. ألا يُعقل أن تنقلب الأدوار، فيصير المحكوم عليه قاضياً ولو كان في زنزانة، والقاضي محكوماً عليه وإن كان على منبر؟
يا أخانا الأكمل، مَنتجسّد لأجلنا وحمل طينتنا واحتمل الحكم الجائر وصعد على الصليب وهبط إلى الجحيم ثم ارتفع إلى السماء، لقد علمتنا أنّنا "إخوتك"، عن غير استحقاق، وأنّ "أباك أبانا وإلهك إلهنا" (يو 20، 17). بَلَغ سلامُنا وفرحُنا بك شأناً نعجز عن بلوغ ارتفاعه وعمقه في حياتنا الروحيّة، وقياس عرضه وطوله في حياتنا الماديّة! فهو فرح وسلام بحجم المعطي: سلامي أُعطيكم! فرحي أُعطيكم! فلا ينزعهما أحد منكم (يو 14، 27؛ 16، 22). لقد حكمتَ أن تعطينا الفرح والسلام الخاصَّين بك! فما أعظم انتصارنا وما أكرم حُكمك!
هذه هي درجات الأخوّة العشر و "سِفْرُ" مرافعتنا كاملةً، وقد أخذناه "من يمين الجالس على العرش" (رؤ 5، 7). هذه هي كامل بشارتنا إليكم؛ "فاصغوا" إليها (أع 2، 14)، فتعزيتنا كبيرة بكم.
كلّنا نعي أنّ المحاكمة لم تنتهِ فصولاً، إذ لنا فيها جولات إلى ما يشاء القدّوس. "فماذا نقول؟ ألعلّ عند الله ظلماً؟ حاشا! (...) فماذا؟ إن كان الله، وهو يريد أن يُظهر غضبه ويبيّن قوته، احتمل بأناة كثيرة آنية غضب مهيّأة للهلاك، ولكي يبيّن غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدّها للمجد..." (رو 9، 14؛ 22-23).
هذا هو انتصار يمين العليّ، بكم وبنا! أمّا ملتقانا المستديم فهو في الصلاة من أجل الكلّ، نرفعها معكم إلى الذي له المجد والقدرة والسجود والملك إلى الأبد! آمين.