كلمة البطريرك يوحنا العاشر
في زيارته السلامية لكنيسة قبرص
صاحب الغبطة،
أيها الشعب المحب المسيح،
المسيح قام، حقاً قام.
من أرض الذهبيّ الفم وأفرام والدمشقيّ يوحنّا جئت حاملاً رحيق إيمان الرسل إلى زهرة المتوسط، قبرص. ومن مشتل النور في الشرق جئت حاملاً شعلة النور متأمّلاً مع إبيفانيوس تعطّف ربّي ونزوله إلى دركات الجحيم ومرتلّاً معه ومع الرسول الشهيد برنابا ومع لعازر الرباعي الأيام نشيد النصر: " المسيح قام. حقًا قام".
أنا آت إليكم بتقليد كنسي يختصر وحدة الإيمان رغم تعدد الثقافات. هي زيارة سلاميّة تشد عرى الأخوة، وتؤكّد أن الشهادة ليسوع المسيح تتوسّل كلّ حضارات العالم وتتوسّد كلّ المجتمعات لتكون شهادة واحدة تصهر قلوب محبيه في أنطاكية وقبرص وفي كلّ أصقاع الدنيا في بوتقة الكأس الواحدة، التي تختصر وحدة الأسرار، إكسيرِ الحياة الأبدية للجميع.
أحمل إليكم محبّة كنيستنا المصلوبة والقائمة.
أحمل إليكم محبّة دمشق وشموخ جبل لبنان.
آتيكم متّشحًا بغيرة أبناء الاسكندرون وبقوّة إيمان أنطاكية الانتشار.
آتيكم بخلجات قلوب أبناء كنيسة أنطاكية التي تئن تحت مسامير صليب هذا المشرق والتي ومن رحم عذابها ستكتب قدر رسوخها في هذا المشرق وستلوي بمسامير صليب ربّها كلّ مسامير الدنيا.
لعلّ قدر كنيسة أنطاكية أن تكون كمحارة صغيرة وسط لجج هذا العالم.
قد يستضعفها كثيرون وقد يتناساها التاريخ المجحف بحق كثيرين، إلّا أن عظمتها بأنّها تطبّق وبعنايةٍ فائقةٍ، وباتّضاع نفسٍ على أغلى جواهرها، الإيمان بالمسيح والشهادة له. وهي دفعت وتدفع إلى اليوم ثمن اكتنازها بحضور المسيح.
هي جريحة جراح الرّب، والرّب فيها مبدئ الحياة ولبها.
هي جريحةٌ مدماةٌ كوجه يسوع على الصليب، لكنها أيضًا ظافرَة معه نورانيةٌ وبنوره مكتسحةٌ قيود الظلام.
كنيسة أنطاكية لم تعرف يومًا إلّا لغة المحّبة ولغة التحدّي في المحبّة، لكنّها في الوقت عينه بقوّة إيمانها، الذي ارتشفته من الرسل، مزروعةٌ لا بل منغرسةٌ راسخةٌ في أرضها رسوخ الجبال.
نحن أبناءَ هذا المشرق، بكلّ أطيافنا، منزرعون فيه كالزيتون.
نحن صنّاع تاريخه، ونحن زرّاع أرزه وزيتونه.
نحن غَرَسَةُ أرزه وزيتونه، ونحن فيه غرْسة خالق الأرز ومبدع الزيتون.
صاحب الغبطة،
لا يخفى على أحد منّا تاريخ قبرص وتاريخ الكنيسة التي سلّمت دفتها إلى حكمتكم. إن هذا البلد الجميل صورة لا تمحى عن إرادة البقاء المسيحية في هذا المشرق وهو في الوقت عينه يختصر في أرثوذكسيّتنا محبّة الوطن والالتصاق به هويةً وكينونةً. نحن نتعلّم منكم ومن شعبكم الطيب أن إرادة الشعوب تعلو ولا يُعلى عليها. ونتعلّم أيضًا أن الانتماء الديني البنّاء هو اللبنة الأولى في بناء المجتمعات. في قبرص نتيقن ونتلمّس أن الأوطان لا تحد بالإثنيات وأن الإثنيات هي نسيج متماسك في جسد وطنٍ واحد. وفي هذه الأرض نتعلّم كيف أن الأرثوذكسية حافظ لهوية وطن ولتاريخ أرض، مهما رُسمت حدود ومهما تعالت جدران. نتمنّى توحيد قبرص التي يخضع قسمها الشمالي للدوّلة التركيّة منذ اثنين وأربعين عامًا ونصلّي من أجل إيجاد حل سلمي لهذه القضية.
إن ماضي العلاقة بين كنيستينا لا تختصرها بضع كلمات. فللبطريرك الأنطاكي سلفسترس القبرصي المنشأ باع طويل، مهما جار التاريخ، في ترسيخ الوجود والروح الأرثوذكسيّة في أنطاكية في القرن الثامن عشر. ولعلّ تجربة رئيس الأساقفة مكاريوس في تاريخنا الحديث هي أقرب ما تكون إلى ترجمة حيّةٍ لغيرةٍ كنسيّةٍ حدّت بالجبّة الكنسيّة لأن تتبوأ ناصية القرار في قبرص في زمنٍ صعب لم يرحم وهي التي دفعت بالمثلّث الرحمة لأن يكون في دفّة قيادة هذا البلد، وفي دفّة تطويره والحفاظ على هويّته. وعندما نتكلّم عن العلاقة الطيّبة بين كنيستينا وشعوبنا، لا يسعنا إلّا أن ننّوه بأن هذه العلاقة تجلّت بأبهى صورّها على عهد سلفينا وسلفيكم الياس الرابع وإغناطيوس الرابع ومكاريوس الثالث وخريسوستومس الأول الذين كانوا على تواصل دائم طيلة فترة تولّيهم. وهذه العلاقة ترتسم اليوم بأبهى صورها على عهدكم يا صاحب الغبطة، أنتم الذين لم تألوا جهدًا في الوقوف إلى جانب كنيسة أنطاكية وشعبها الطيّب. وكنتم ولا تزالون قائد الدفّة بامتياز. نحن نصلّي من أجلكم، يا صاحب الغبطة، وننقل إليكم صلوات إخوتنا المطارنة في كنيسة أنطاكية، ونحمل أيضًا محبّة شعبنا لكم وتوقه للقائكم ولنيل بركتكم.
يا صاحب الغبطة،
أنطاكية جريحة لما يحدث في ديارها، وما زاد على الجرح الأنطاكي جروحًا هو تصرّف أخينا بطريرك أورشليم بإرساله "رئيس أساقفةٍ" لقطر. ففي الوقت الذي كانت فيها كنيستنا تلمّلم جراح الداخل تهجيرًا وقتلاً وخطفًا، جاءها الجرح هذه المرّة من الخارج.
نحن لسنا بصدد الدفاع عن حق لنا في العربيّة وفي كلّ تلك المنطقة، إلّا أنّه لا يسعنا سوى الإثناء والتنويه بمبادرتكم الأخيرة للحل، والتي جاءت بمباركة قداسة الأخ برثلماوس رئيس أساقفة القسطنطينية وروما الجديدة والبطريرك المسكوني، وكذلك الإخوة رؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة، والتي تقضي بالعودة إلى الوضع السابق، أيّ سحب اللقب ونقل المطران من قطر إلى مكان آخر، والاتّفاق على خطوات لاحقة. إلّا ان كّل هذا لا يمنعنا عن التعبير عن خيبة أمل كبرى لتعثّر هذه المبادرة إلى الآن، واصطدامها بالفشل، وذلك لعدم قيام البطريرك المقدسي بأيّ فعل إيجابي بهذا الشأن إلى الآن.
إن هذه القضيّة، يا صاحب الغبطة، هي محك شهادتنا الأرثوذكسيّة الواحدة. ونحن نصلّي ألا تكون عثرةً في وجه نجاح المجمع الأرثوذكسيّ الكبير المزمع عقده العام القادم.
نحن نرى أن هذا المجمع ينبغي أن يكون جوابًا على قضايا اليوم، وألا يكون تعويمًا لأرشيف الماضي، على أهميّته. الحريّ به أن يكون كلمة تسمعها أذن إنسان اليوم، فتجد فيها جوابًا مسيحيًّا أرثوذكسيًّا على كثير من تساؤلات يتزاحم فيها عالم اليوم المتسارع. وكلّ هذا يقتضي ضرورة التحضير المدروس له. نحن نعلّق على هذا المجمع أملاً كبيرًا ونأمل أن يضع من صلب اهتماماته قضيّة الوجود المسيحي في الأرض الأولى. إن وجه المسيح بحضور المسيحييّن في الشرق الأوسط هو قضيّة تمس جوهر المسيحيّة.
يكفي العالم أساقفةً فخريين!!
وليكن فخرَنا حضورُ المسيحيّة في المشرق.
وليكن حضورنا في الأرض الأولى حضورًا قويًا فعليًّا ومنفتحًا على الجميع في آن.
إن من أهم واجبات قادة العالم المسيحيّ هو الحفاظ على اسم المسيح في الشرق الأوسط، وهذا يتم بالدفع الفوري نحو إغلاق كلّ منافذ الصراع فيه، وإحلال روح السلام ولغة الإنسانيّة مكان لغة المصالح والتجاذب.
صاحب الغبطة،
أيها الحضور الكريم،
الأزمة في سوريا تجتاز عامها الخامس والعالم يتفرّج. ونحن هنا لنسمع صوت معاناة شعبنا.
كفانا قتلاً وادعاءاتٍ.
كفانا إرهابًاً وقتلاً وإجرامًا أعمى واستيرادًا لإيديولوجيّات متطرّفة تمتهن الدين وتحاكم الناس لمجرّد كونهم مسيحيّين أو على هذا المذهب أو ذاك، وكلّ ذلك تحت مسمى الحرية والديمقراطية. نحن لم نعرف هذه الروح في سوريا. كفانا خطفًا وتهجيًرا وتقطيعًا لأوصال بلادٍ، لا تدّعي الكمال، ولكنّها عُرفت بإسلام متسامحٍ وبعيشٍ واحد بين كلّ أطيافها.
مطرانا حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي يختصران بقضيتهما مأساة كلّ المخطوفين، ويختصران مأساة الشعب السوري بأسره ومأساة شعبنا الأنطاكي، وهما القابعان في الخطف منذ أكثر من عامين وسط تعتيم دولي مريب. كنائس ومساجد ومرافق ومدن وأوابد تدمّر وسط تواطؤ الخارج أو تفرّجه، وكلّ هذا يجري تحت مسميّات واهية، سئمناها وسئمنا فواتيرها الغالية.
من هنا نطلق صرختنا مجددًا من أجل السلام في سوريا والاستقرار في لبنان الذي يرزح تحت الفراغ الدستوري في سدّة الرئاسة. كما نرفع الصوت من أجل العراق المستنزف من الإرهاب ومن أجل اليمن الذي يدفع كما غيره ضريبة قساوة هذه الأيام.
ونصلّي من أجل السلام في المشرق وفي العالم كلّه.
نصلّي من أجل إخوتنا في كنيسة قبرص.
نصلي من أجلكم يا صاحب الغبطة ومن أجل المجمع المقدّس والشعب المحب المسيح.
ومن هنا نبعث بالتحيّة لفخامة الرئيس نيكوس أناستاسياديس وكلّ معاونيه في الحكم ضارعين أن يديم الله رحمته على قبرص.
وإذ نصلّي نتعالى على كلّ الجراح. ونمسح قلوبنا ومآقي نفوسنا بوميض نور المسيح القائم. نحن أبناء قيامةٍ وأبناء نور. ومن نور ربّنا تكتحل نفوسنا أولاً بوهج القيامة. حالنا أشبه ما يكون بالعذراء مريم، التي غلبت برقّة قلبها كلّ ظلامية هذا الدهر. نحن مريميّون بالرجاء. ومن مريم نتعلّم أن درب القيامة آتٍ. وفي لحد ابنها ندفن كلّ صعاب الدنيا على بالغ مرارتها لكي نرنّم مع الدمشقي يوحنا أنشودة الظفر ولحن قيامتنا كنيسةً، أوطانًا وبشريّة، فنخلع على قيامته بعدًا تجسديًّا شخصيًّا يلامس قاع نفوسنا لتهتف بكلّ قوة وثقة وعنفوان:
" أيّها المسيح المخلّص، إنّنا أمس قد دُفنّا معك، واليوم نقوم معك بقيامتك"
المسيح قام، حقًا قام.