برحمة الله تعالى
يوحنا العاشر
بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس
إلى إخوتي رعاة الكنيسة الأنطاكية المقدسة
وأبنائي حيثما حلوا في أرجاء هذا الكرسي الرسولي
"إنني أشاهد سراً عظيماً مستغرباً، المغارة سماء والبتول عرشاً شاروبيمياً والمزود محلاً شريفاً، الذي اتكأ فيه المسيح الإله غير الموسوع في مكان. فلنسبحه معظمين"
بمزود محبةٍ جاء يسوعنا وبمغارة اختار أن يزور البشرية.
وبمجيئه إلينا قاسى الرب كل ضعفاتنا ما عدا الخطيئة. هو لم يختر صوالج ولا أرائك الكبار ليبشر بالخلاص، بل اختار حضن العذراء القديسة. لقد لبسنا كي نلبسه. لقد توطن مغارة ليوطننا قبة السماء. يسوعنا أتى من أجل بشريةٍ جرحت مع آدم وتاهت مع حواء. وميلاده بالجسد هو ذكرى الافتقاد الإلهي، هو دمغة المحبة الإلهية التي تنتظر نفوساً مريمية تكون مبخرةً تفيح شذا الخالق للدنيا. وهذه حال مريم العذراء الأم الكلية القداسة، إذ هي مبخرةٌ أفاحت نور الرب للناس.
فلنضع ذواتنا ولو لمرة واحدة ولنر كيف اقتنصت هذي الفتاة خَيَار الله، ولنر كيف أنها مثال لنا في كل ما ينتابنا من ضيق بعد ألفي عام من مجيء الرب.
لم تكن مريم من جبابرة الأرض لكنها كانت من جبابرة الصلاة. لم تكن مريم ابنة اليسر وابنة الفرج. مريم كانت ابنة المحبة الخفرة وابنة التواضع والطواعية للأمر الإلهي. لم تتذمر مريم من ضيق حل بسمعتها ولم تخجل من حبَلٍ بالروح سيجعل اسمها على كل لسان. لم تتشكَّ ابنة الجليل لضيقٍ حل في وقتها هو أشبه بالأيام الحاصلة، بل تدرّعت بالرب. لم تخجل مريم بصليب ابنها بل رافقته في درب الصليب وبكت، كما كثير منا، طغيان الباطل على الحق.
مريم قد تكون مثل كثيرين منا ممن يرون مسامير الباطل تُدقّ في جسم الحق تماماً كالمسامير التي ثقبت يدي يسوع المصلوب. لكن مريم لم تجحد ربها كما يفعل البعض إذ يرون طغيان الظلمة على النور. مريم لم تقل أين ربي مما يحصل بقلبي ولكنها قالت إن ربي هو من يثبت قلبي حتى ولو غرز فيه صليب بطول السماء. لا شك بأن مريم بشرٌ مثلنا ولا شك أيضاً أننا وفي كثير من الأحيان نبكي مثلها لكن قوة وفرادة هذه الطهور هي أنها لم تدع القنوط يغلب الرجاء. لم تدع الحزن يغلبها ولم تخف يوماً أن تضع رجاءها بالرب وحده وهذا ما نحن مدعوون إليه في أيام حالكة قد يمر بها إنسانٌ أو مجتمعٌ أو وطنٌ أو مشرقٌ.
نحن مدعوون أن نتكاتف في هذه الأيام وأن نكون في مختلف أبرشياتنا على مثال العذراء مريم ومصفّ الرسل. إن تكاتفهم وتلاحمهم، ممزوجاً برجاء لا يخيب بربٍّ أباد الموت، هو الذي ألحد الخوف في قلوبهم. لقد دفنوا الخوف بلحمتهم ومحبتهم. ونحن مدعوون أن ندفن قدر ما نستطيع من محننا بعيشنا روحاً واحداً وقلباً واحداً مهما اختلفت الجغرافية ومهما امتدت المسافات. أنطاكية المسيح هي قلوب يشدها رباط يسوع أولاً وأخيراً. وأمام هذا الرباط تذوب كل أنانية وكل عرقٍ وكل تصدّعٍ وكل خلافٍ، وكل ذلك ليسمو المسيح على جبينها.
نحن كمسيحيين مشرقيين مدعوون دوماً أن نتأمل أن يسوع ربّنا لم يوافنا في أيامٍ أفضل من أيامنا. ونحن لقوة محبّته اتشحنا باسمه أولاً في أنطاكية وبقوة صليبه عشق أجدادنا هذي الأرض وغُرسوا فيها. نحن فيها ومنها. من رحمها جئنا وإلى رحمها سنعود. باقون فيها وبصليب ربنا نجوز صليب شقائنا. وإلى من يخطف مطارنتنا ويستهدف ناسنا نقول: نحن من عتاقة هذا الشرق وهو منا قلب وكيان، وهو قلب وكيانٌ ضمّنا ويضمُّنا مع إخوتنا في المواطنة ومن كل الديانات. ونحن لن ندّخر وسيلةً في سبيل البقاء في هذه الأرض والدفاع عن عتاقة تاريخنا ووجودنا فيها.
صلاتنا اليوم من أجل السلام في سوريا ومن أجل الاستقرار في لبنان. صلاتنا من أجل هذا الشرق المعذب بفلسطينه الجريحة جرحِ البشرية الدامي وعراقه وكل ذرة تراب منه. صلاتنا من أجل المشرّد والمهجّر والمفقود والمخطوف والشهيد. صلاتنا إلى العذراء مريم أن ترسل السلام للنفوس لأن سلام النفس هو بذرة سلام الأرض. صلاتنا إليها من أجل أبنائها المخطوفين كل المخطوفين ومنهم مطرانا حلب يوحنا ابراهيم وبولس يازجي ومن أجل كل مخطوف ومهجّر. صلاتنا إلى الأم العذراء أن ترافق بفيض حنوّها كل أهلنا وأبنائنا في الوطن وبلاد الانتشار وتسبغ على البشرية مراحم طفل السلام وأبي المراحم.
يا يسوع يا من وافانا طفلاً بالجسد وافنا بغزير مراحمك واحفظ أطفالنا ووالدينا. يا من افترش المغارة هلم وافترش مغارة نفوسنا وشذب أفكارنا بنورك القدوس. يا يسوع يا من أثابنا حضوره سلاماً، سلم حياتنا. أيها الطفل الصامت أمام طغيان الباطل، ازرع حقك في نفوسنا وسكن بجبروت صمتك كل فتنة وجزع واضطراب وعلمنا جميعاً أن ننشدك مصفاً واحداً: "المجد لله في العلا وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة".
صدر عن مقامنا البطريركي بدمشق
بتاريخ العشرين من كانون الأول للعام 2015.