كلمة قداسة البطريرك المسكونيّ برثلماوس:
"ذكر الصدّيق للبركة، بركة الربّ تغني، ولا يزيد معها تعبًا" (أمثال 10: 7و22).
بحزن، ولكن ليس كالذين لا رجاء لهم، بل بقلب أليم نشترك معًا اليوم في خدمة جنّاز أخينا المحبوب ومشاركنا في الخدمة، أبيكم الروحيّ المبارك الذكر المثلّث الرحمة بطريرك أنطاكية إغناطيوس، مشتركين بجسد واحد وقلب واحد مع كلّ الإكليروس والعلمانيّين، ومؤكّدين قول سفر الأمثال:"طوبى للإنسان الذي يجد الحكمة، وللرجل الذي ينال الفهم"، (أمثال 13:3).
وإنّ خدمة الجنّاز هذه تحمل أيضًا علامات الصليب والقيامة. في أوان الوداع الأخير والقبلة الأخويّة للبطريرك الراحل تغمرنا مشاعر الحزن الإنسانيّ المبرّر، فيما نمتلئ في الوقت عينه بالفرح. يحزننا أن نفقد أخًا حبيبًا جعلنا يتامى بوفاته، هو الذي لعقود قاد بطريركيّته القديمة، وقد ترك بوفاته فراغًا لا يعوّض، بخاصّة في هذا الزمن العصيب الذي يمرّ على شعب سورية وأرض سورية، وعلى هذا القطيع الأرثوذكسيّ العزيز.
إنّ شخصيّة البطريرك إغناطيوس ومحبّته الأصيلة لأبناء رعيّته تلهم كلّ واحد منّا على المستويين الروحيّ والأخلاقيّ، ذلك بأنّنا كلّنا رأينا فيه تجسيدًا للفضيلة، وفي الوقت عينه لجرأة الأرثوذكسيّة وشجاعتها، مظهرًا أنّ الحياة التي لا توصف في المسيح ليست أمرًا صعب المنال، وما هي "مشورة تبطل أو كلمة لا تقوم" (إشعياء 10:8)، إنّما هي واقع ملموس. ولهذا كانت لأخينا الكلّيّ القداسة مكانة أولى في قلوب أخوته والشعب ضمن نطاق كنيسته في ما بين الأرثوذكسيّين وغير الأرثوذكسيّين، وعند أبناء الطوائف والديانات الأخرى أيضًا، وكلّهم أبناء الله الكلّيّ القدرة، "الذي خلق كلّ الشعوب وكوّن كلّ الأشياء".
في الوقت عينه، نختبر في هذه اللحظة شعورًا عميقًا بالفرح الروحيّ، لأنّ كنيسة أنطاكية وشعبها المؤمن قد ربح سفيرًا آخر وشفيعًا في السماء أمام عرش الربّ، لأنّ مختار الله "لم يتعب باطلاً" (إشعياء 23:65).
إنّ أخانا الغالي وشريكنا في الخدمة قد انتقل إلى السماء، لكي يكمل الاحتفال الذي لا ينقطع بالسرّ الإلهيّ، الذي طالما أحبّه هنا على الأرض، واشترك في ممارسته بوعي كبير، بقدر ما كان يتيحه له وضعه الصحّيّ. أمّا الآن، فإنّ جسده الضعيف لن يعوقه بعد عن إتمام الاحتفال الإلهيّ الأبديّ. فإذ قد تحرّر من ثقل المواتيّة والفساد، ها هو يشترك في السرّ مع الربّ نفسه في المدينة المباركة حيث "الهيكل هو الإله الربّ الكلّيّ القدرة الخروف" (رؤيا 22:21-23). وهو الآن "في أورشليم السماويّة بين الملائكة الذين لا عدّ لهم" (عبرانيّين 22:12)، واقفًا أمام الملك العظيم ممتلئًا من النور السماويّ، كما قال سلفنا على الكرسي القسطنطينيّ القدّيس غريغوريوس اللاهوتيّ في شقيقه سيزاريوس.
كرّس البطريرك الراحل نفسه للحياة الليتورجيّة وللاحتفال بسرّ الشكر، رغم الصعوبات التي كانت تطرحها أمامه مسؤوليّاته البطريركيّة، وكان هذا التكريس إحدى ميزات حياته التي رافقته حتّى النهاية. فكانت الليتورجيا حقًّا عالمه، وكانت تجتذب كلّ إنسان، وعلى كنيسة أنطاكية اليوم أن تفتخر بأنّ إنسانًا بهذا المقام الروحيّ الرفيع كان يرعى قطيعه. كان فخرًا وفرحًا لرئاسة الكهنوت، وكانت شهرته وخدمته معروفتين في الأرثوذكسيّة جمعاء. وكان بركة حقيقيّة من الله لهذا الجسد المضطرب الذي خدمه البطريرك الراحل بنكران ذاتيّ وتفان كبير، متمسّكًا على الدوام باحترام مطلق لنظام كنيستنا الأرثوذكسيّة المجمعيّ. كان هادئًا ودائم السهر حاملاً الرجاء في نعمة الله ورحمته. بهذا الرجاء واجه البطريرك إغناطيوس التقدّم في السنّ بروح الكرامة المسيحيّة مسلّمًا نفسه للمسيح الذي أحبّه منذ الطفولة، وخدمه بصورة أخوته كإنسان وكراعٍ للكنيسة.
خدم البطريرك الأنطاكيّ الراحل كنيسة أنطاكية المقدّسة ورعاها في حقبة متطلّبة جدًّا. ومع هذا، واجه باستحقاق كلّ الأزمنة وكلّ التحدّيات، مقدّمًا شهادة عظيمة وتواضعًا ومحبّة وتضحية وشرفًا وعدالة. واجه كلّ المشاكل التي اعترضته، بخاصّة في سنوات حياته الأخيرة، في الكنيسة وبين شعبه المحبوب في لبنان وسورية، بروح إنجيليّة وتمايز أخلاقيّ رفيع. خبر عذاب شعبه وكأنّه عذابه هو، وصار تعزية حقيقيّة. وقف في وجه الظروف، وحافظ على تماسك كنيسته طاهرة أمام شعبه وأمام كلّ عضو من أعضاء الجماعة الدوليّة من ذوي النيّات الحسنة. عبّر البطريرك الراحل تعبيرًا أصيلاً عن الحقيقة، حقيقة ربّنا وإلهنا يسوع المسيح، وذلك حين أظهر أنّ الكنيسة لا تحدّها الحدود الإثنيّة، ولكنّها تضمّ كلّ الشعوب وكلّ عمل جادّ يؤول إلى سيادة السلام والعدل والمحبّة والتضامن بين الشعوب، تكون فيه الكنيسة مصدرًا حقيقيًّا لتعزية الناس. فالكنيسة هي التي لا تهملنا في أحزاننا ولا تخيّب رجاءنا وأملنا، وذلك بأنّ رأسنا هو الربّ نفسه الذي أحبّه البطريرك واتّحد به دومًا بالصلاة، معلنًا بجرأة وفي كلّ مكان رأيه أمام الرأي العامّ الكونيّ، وهو أنّ "الرجل الفقير الذي يظلم الفقراء" (أمثال 3:28)، مظهرًا بهذا حقيقة الكنيسة. تعب لأجل شعبه، وعاش حياة المؤمن البسيطة بزهد ونسك تامّ، مجاهدًا بكامل قوّته وعلى نحو عمليّ، لكي يعزّي ويحمي ويحلّ مشاكل الاستمراريّة التي تواجه شعبه.
كلّ من تشرّف منّا بمعرفة البطريرك الراحل إغناطيوس شخصيًّا، انذهل بتواضعه وشجاعته وبساطته الكبيرة وحبّه للصوم ولبلاغته في الصمت وفي الصلاة، وفي رسائله الصاعقة حيث تدعو الحاجة.
كان وديعًا متواضعًا محبًّا للسلام، فصار نموذجًا حياتيًّا لكلّ شعبه. وهكذا أتمّ الربّ فيه وعده الصادق، فنظر إلى المتواضع الذي يخاف كلمته وأغدق عليه عطاياه الكثيرة، وجعله ينبوعًا للتعزية الروحيّة وللتقديس ولفائدة كنيسته. ويصحّ هنا ما قاله سلفنا على عرش البطريركيّة القسطنطينيّة يوحنّا الذهبيّ الفم، متوجّهًا إلى القدّيس ملاتيوس بطريرك الإسكندريّة:"استطاع، ليس فقط بتعليمه وبكلماته، ولكن أيضًا بمرآه، أن ينقل كلّ فضيلة إلى نفوس الذين كانوا ينظرون إليه".
كنيسة القسطنطينيّة، شقيقة كنيسة أنطاكية، تشارك معها في الحزن على فقدان رجل ملهَم حقًّا وقائد بارز، الذي "يلهج فمه بالصدق، وشفتاه تكرهان الكذب" (أمثال 7:8)، والذي لسنوات عدّة قاد قطيعه إلى مراعي الخلاص على طريق ربّنا ومشيئته الإلهيّة. ولذا نقدّم تعزيتنا القلبيّة لكلّ أعضاء المجمع المقدّس ولشعب كنيسة أنطاكية المقدّسة في سورية ولبنان.
وإنّه لواجب شخصيّ علينا في هذا الوقت بالذات، وقت وداع أخينا المكرّم الأخير، والذي سنقدّمه بعد قليل، أن نوحّد صلاتنا الحارّة طالبين شفاعته المرضيّة أمام الله لأجل سلام شعب كنيسته، ولأجل هذه المنطقة الحسّاسة في الشرق الأوسط. وإنّنا نقدّم صلاتنا الحارّة وطلبنا إلى الله أن ينير قادتنا وسلطاتنا في هذا العالم على حلّ المشاكل في هذه المنقطة، وفي غيرها، بروح العدل والاحترام لتاريخ شعوبها وقوميّاتها، وذلك دومًا بمحبّة الإله الواحد، و"بالمعرفة التي بها ينجو الصدّيقون، وببركة المستقيمين التي تعلو بها المدينة، وبفم الأشرار تهدم. وعند هلاك الأشرار هتاف" (أمثال9:11-11).
وإنّه لواجب علينا أن نعمل للحفاظ على المجتمع الكونيّ ولحماية الحياة الإنسانيّة أوّلاً، والحياة الروحيّة والمراكز التاريخيّة والنصب الوطنيّة والدينيّة في هذه المنطقة من العالم التي وطئتها قدما المخلّص المخلّصتان، حيث "أرض الأحياء" سكنت بيننا. هنا أيضًا قامت كنائس قديمة رائعة وأديار وأماكن عبادة مقدّسة على مرّ القرون على يد شعب تقيّ، وكعلامة على الإيمان والمحبّة تجاه إله الكلّ. بحزن عميق تبلّغنا عبر وسائل الإعلام أخبار هدمها في هذه الأيّام التي فيها يتحدّث الجميع عن احترام حقوق الإنسان، وكلّ ما تمّ بناؤه بتعب القدّيسين الكبار اللامتناهي، وعلى يد حكّام هذا الشعب الأتقياء وآبائه المؤمنين. إنّنا نعي الحزن الذي سبّبه هذا الأمر للبطريرك الراحل إغناطيوس. "ذكر البارّ بركة". أمّا لك يا أخي المبارك بطريرك أنطاكية فالشهادة تكفي، وها أنت اليوم تعاين النور حقًّا، نور الربّ القدير والقويّ والذي له كلّ سلطان على الحياة والموت.
نصلّي لكي يتقبّل إلهنا الصالح والمحبّ شفاعته في هذا الوقت، وقت مثوله أمام عرش الإله. وليوقف الله كلّ دمار، وليمنح أوان سلام حافظًا حياة الناس وسلامهم، بلا تفرقة في الدين أو المعتقد أو الأمّة أو العرق. ونضمّ صلاتنا بحرارة إلى صلاة البطريرك الراقد لكي يحفظ الله هذا الشعب من كلّ شرّ منظور أو غير منظور، هذا الشعب الذي يودّع اليوم بحزن عميق وقلب منكسر منتظرًا بالرجاء أن يلاقيه في ملكوته الأبديّ في أورشليم السماويّة. ومن عمق قلبنا نصلّي أيضًا لكي يبقى روح هذا الشعب مرتفعًا وغير مستعبد، كما كان في تاريخه وتقليده وفي خبرته في الشهادة لأجل الحرّيّة.
ونصلّي بخاصّة لكي ينير الله كلّ أعضاء الإكليروس المحبوب في كنيسته لكي يعلن خلفًا مستحقًّا للبطريرك الراحل، خلفًا يسير على خطاه ويلتصق بالتراث ويبقي ذكرى هذا الرجل المبارك حيّة. وإنّنا نعبّر عن رجائنا في أن يقتدي قادة كنيسة أنطاكية المقدّسة بمثال بطريركهم الراحل المضيء لأنّ ذكر الرجل الصالح وقصّة حياته تشبه المرآة الروحيّة على حدّ قول أبينا العظيم القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم.
فليعطِ إلهنا الكلّيّ الرحمة أخانا المستريح وشريكنا في خدمة الربّ الثواب المحفوظ للصالحين والحكماء، وليمنح نعمته لأنّ "فيه نبع الحياة، وبنوره نعاين النور" (مزمور 10:35). ولتبقَ ذكرى البطريرك الراحل أمام الله العادل.
وإنّنا لنطلب من كلّ قلبنا، من أخينا المحبوب صاحب الذكرى المباركة، أن يصلّي بلا انقطاع لكي يثبت أبناء هذه الكنيسة المقدّسة في ما تعلّموه وفي ما أوكلوا به (2تيموثاوس 14:3)، ولكي نستحقّ جميعنا الرحمة الإلهيّة والتقديس في يسوع المسيح ربّنا الذي له المجد والقدرة والحكمة والحياة والقيامة إلى دهر الدهور، آمين".
أمّا رئيس أساقفة قبرص فقال: "كنيسة قبرص تعبّر اليوم عن حزنها العميق والأسى لفقدان غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع (هزيم). نرفع يد التضرّع إلى الله ونطلب ونتوسّل إلى الربّ الإله أن يريح نفسه في بلدة الأحياء ويرتّبه مع الصديقين. كما نطلب إلى الربّ لكي يظهر، عبر المجمع الأنطاكيّ المقدّس، الخلف المستحقّ لرئاسة عرش أنطاكية، ويتابع عمله من أجل خير الكنيسة وشعب الله".