وداعًا للبطريرك إغناطيوس الرابع
الاثنين,10 كانون الأول 2012 الموافق 26 المحرم 1434 هـ
رئيس جامعة البلمند
إيلي أديب سالم
يؤلمني ويجرحني في الصميم أن أتوجه إلى أحبائي في العائلة البلمندية، ومن خلالهم إلى العائلة المشرقية العالمية، مودِّعًا مؤسس جامعتنا ورئيس مجلس أمنائها البطريرك التاريخي إغناطيوس الرابع.
نحن هنا في جامعة البلمند لأنه هو هنا. لولاه لبقينا منتشرين في جامعات المنطقة والعالم ومؤسساتها التعليمية.
من بين كل بطاركة أنطاكية الأرثوذكسيين، وحده إغناطيوس الرابع تفرّد وأسس جامعة تجسّد رؤيته لخدمة لبنان والمشرق العربي والانتشار الأرثوذكسي في المهاجر.
فعلى غرار معلّمه، السيد المسيح، لم يكتب إغناطيوس كتابًا. بل مِثْله علَّم بالكلمة وبالمَثَل، ومِثْله كان زاهدًا في سلوكه، ناسكًا في حياته، ملتزمًا بكليته خدمة الآخرين، ومنهمكًا في إعلاء شأنهم. «أنت أرثوذكسيٌ حقًّا إن أنت تحب الآخر حقًّا، وترى نفسك من خلاله»، هكذا كان الراحل الكبير يُعبِّر عن نظرته إلى الأخوَّة في المواطنة إسلاميًا ومسيحيًا.
لسؤال زائريه من كل أنحاء العالم عن سيرة حياته، أو عن كتب ألّفها، كان يبتسم إذ لم يكتب سيرة، ولم يؤلّف كتابًا، فهو يعلِّم ويعظ. كصديق مشغف به، وبالرغم من تردّد كبير من قبله، أقْدمتُ على كتابة سيرة حياته في كتاب عنوانه «من محردة إلى عرش أنطاكية»، كما وضعت عظاته وكلماته في كتاب بعنوان «مواقف وأقوال»، ذلك لأني وجدت في إغناطيوس الرابع ثروة فكرية ونموذجًا أرثوذكسيًا حيًّا يعيش إيمانه بكلّ مستلزماته، فارتأيت أن أعرِّف العالم بهذه الشخصية الفذّة والفريدة من خلال إصدار هذين الكتابين.
في مسيحيته كان إغناطيوس عملاقًا من نوع آخر، متجذرًا في الكنيسة المشرقية التي انطلقت مع تلامذة المسيح من القدس الى أنطاكية، ومن أنطاكية إلى العالم أجمع. يتكلم عن المسيح وكأنه واحد من أبناء بلدته. فالمسيح على حدّ قول البطريرك، وبلغة محردة، هو «واحد من جماعتنا»، فهو منّا ومعنا، لونه أسمر، لغته لغتنا، تقاليده تقاليدنا.
«نحن أبناء المسيح»، يقول إغناطيوس. أخذ الغرب المسيحيّة من عندنا وميّزها ببعض خصائصه. لكنّ المسيحية اليوم بحاجة إلى أن تسترجع جذورها المشرقيّة. فالمسيح علّم في القدس ودفن فيها، وفيها أُعلنت قيامته الخلاصيّة للعالم.
إغناطيوس البلمنديّ، بطريرك العرب، هو عربي أصيل، يتقن العربية ويتغنى بها، ويفخر بالحضارة العربية التي كان للمسيحيين المشرقيين إسهام كبير فيها. من هنا أن حواراته ولقاءاته مع الأئمّة المسلمين تميّزت بالعمق الذي عليه يتأسّس التواصل الإنساني الحقيقي.
وإغناطيوس، السوري المنشأ، من بلدة ارثوذكسية بالقرب من حماه، الذي حمل في صميمه صليب سورية، اختار أن يكون لبنانيًا، فأحبّ لبنان وحمل رسالته في المشرق والعالم. وما من أحد أكثر من إغناطيوس الرابع تألم مع عذابات لبنان وعمل بقوة على إنهائها داعمًا مسيرة توحيده.
لم يملك البطريرك الناسك شيئًا، لا بيتًا، ولا أرضًا ولا كرمة عنب أو زيتون. لم يحمل مالاً لا في جيبه ولا رصيدًا في مصرف، ولم يعمل يومًا لنفسه أو لعائلته. ولأنه تجرّد من كل شيء، أُغدقت عليه التبرّعات من كل صوب، فحوّلها كلّها إلى الكنيسة، إلى المدارس والمؤسسات، وإلى جامعة البلمند. أتى منفيًّا إلى دير سيدة البلمند حين كان الدير مهجورًا ومرتعًا للماعز. فحوَّل هذا الموقع إلى واحة إشعاع، إن على صعيد الحضور الكنسي من خلال معهد القديس يوحنا الدمشقي، أو على صعيد التعليم بتأسيس جامعة البلمند. وبرعايته أصبحت هذه الجامعة، في عقدين من الزمن، من أولى الجامعات في لبنان. وكان يحلو له أن يعتبرها لؤلؤة غالية في تاج الأرثوذكسية.
كان إغناطيوس تلميذ لاهوت، وتلميذ رياضيات، وتلميذ فلسفة. لكنّ الصفة التي يتّسم بها أولاً وأخيرًا، هي أنه الإنسان المتواضع المنكسر أمام ربّه، والعميق في فكره، والمتجلي بإيمانه. كان إغناطيوس، على طريقته، عاشقًا إلهيًّا بسبب إدراكه للبعد التجسّدي الذي تقوم عليه المحبة الإلهية. فحوَّل هذه الرؤية إلى عشق للإنسان ناذرًا نفسه لخدمة هذا الأخير ليرشده إلى طريق الخلاص، إلى طريق الحقّ.
قفز إغناطيوس فوق الحواجز، وفوق الماضي، ليعيش في الحاضر وفي المستقبل، ليعيش بقوة العقل ورجاء الإيمان. الماضي، بالنسبة إليه يحتوي الكثير من الجثث، قد نتعلّم منه الكثير ولكن لا يجوز الرجوع إليه للبقاء عنده. أما الحياة، بالنسبة إليه، فهي مسيرة إلى الأمام. صحيح أن المسيح ولد منذ ألفي سنة، ولكن المسيح معنا، المسيح أمامنا. صحيح أن هنالك قممًا في الماضي، وأن هنالك قديسين بين الآباء، ولكن نحن أيضًا نملك قممًا وعندنا قديسون. ستبقى معنا هذه القمم، كما سيبقى معنا قديسون. «نحن مستقبليون» يقول إغناطيوس، نحن نعيش فرح التجسّد والقيامة، ونفعل في التاريخ من هذا المنطلق.
أمضيت الأيام الأخيرة مع غبطته، في المقرّ البطريركي في البلمند وهو يتعافى من وعكته الصحية. مساء الأحد، في الثاني من كانون الأول 2012، قال لي «الآن استعدت صحتي كاملة، وغدًا سأرجع إلى البطريركية في دمشق».
جئت إليه يوم الاثنين لأودّعه، فإذا بي أُفاجأ بأنه، وعلى أثر تعرّضه لحادث بسيط، آثر أن يعود إلى ربّه الذي كرّس في خدمته سبعين سنة من عمره.
سيبقى إغناطيوس الرابع حيًا في ذاكرتنا، حيًا في المَثَل. خسرت الأرثوذكسية بطريركًا ولكنها ربحت إرثًا دينيًا وأخلاقيًا وحضاريًا لا يفنى، وخبرة جيل عايشه وتبارك برعايته.
لقد رحل إغناطيوس الرابع، «ثالث عشر الرسل الأطهار»، على رجاء القيامة تاركًا لنا غنى معرفتنا به وجمال ذكراه.
تغمده الله برحمته.