رحيل بطريرك العرب
يقظان التقي
غيّب الموت أمس بطريرك إنطاكية وسائر المشرق لطائفة الروم الأرثوذكس أغناطيوس الرابع هزيم عن عمر يناهز الـ91 عاماً وقد عانى أخيراً تراجعاً في صحته أثّر عليه كثيراً. ما من موت في سفر الأيقونة الأرثوذكسية، بل فعل حياة في سيرة معطاءة حيث رسم هزيم شخصية عالمه الديني، المحافظ نسبياً سياسياً وفكرياً. وقد اختار رسالته الدينية متقاطعاً مع الكبار في كنيسته وفي أواخر كبار الزمن المسيحي العربي الجميل. أرثوذكسي في العمق ومؤمن وممارس دعاويه ببساطة روحية وأخرى بتأملات ومضامين روحية عميقة.
عمّ الحزن أمس لبنان. قرعت أجراء الكنائس والأديرة وأقفلت جامعات أبوابها على خبر الرحيل، يعني أن يكون البطريرك هزيم نفسه كما غسان تويني قبله شهيداً لتعرضه لجلطة دماغية، ذلك أن هزيم قادته المسيرة من المحردة الى عرش أنطاكية الى أزمنة صعبة ومجهولة لا سيما في حوارات صعبة مع الرجل الحدث في السياسة والتاريخ في قصر المهاجرين. لم تكن الرحلة بتلك السهولة لرجل الكنيسة والانتماء العميق الضارب في جذوره إزاء فوضى الشباب والقتل والعنف والألم الكبير على سوريا الجريحة، لا سيما وفي سيرة البطريرك من العام 1982 ما يروى عن وقفة تاريخية وبروح مقارنة نضالية وما يروى كيف أن البطريرك رفض في "حضرة" الأسد الأب الإعلان عن موقف طائفته يشجب فيه "الاخوان المسلمين"، الذي كان نظام الأسد قد نجح باستدراجهم للمواجهة المسلحة.
في مجزرة حماه الشهيرة التي ارتكبها النظام كأي شيء يحدث تحت الأرض حينها... اكثر من ذلك رفض هزيم طلب الأسد وجاهة وحين امتعض الأسد وسأله عن السبب أجابه هزيم: "يا سيادة الرئيس أوتريد مني أنا المسيحي النصراني، الأرثوذكسي، المشرقي والعروبي أن أخلف عهد عمر بن الخطاب سنة 636.. لا أستطيع ذلك"، ولم يفعل ذلك.
وحدث على الأرض أن استقبلت القرى الأرثوذكسية في جبل اللاذقية المسلمين الفارين من بطش النظام وآلة قتله وعنفه.
لم يكن هزيم اسماً عادياً في الكنيسة، ولم يكن من طراز المناضلين الذين لم يغادروا الساحة، ساحة الاحتجاج والنقد والمطالبة بالحرية والديموقراطية ولا سيما في السنوات العشر الأخيرة. لكن مواقفه لم تأت ثانوية هو الذي قال "نحن أصحاب هذه الأرض وغيرنا ضيوف عليها"، ولا بصمته الأخير عما يجري في سوريا من أحداث وأحياناً يكون الصمت هو كل الكلام الحقيقي لرجل هو التوأم مع شجر الزيتون والأرض والنور ضوء الإيمان والعدل والكرامة الإنسانية.
نتذكره كبيراً قامة طويلة برفقة غسان تويني وإيلي سالم والبطريرك نصرالله صفير والرئيس الشهيد رفيق الحريري وآخرين.
شخصية ستحفر عميقاً في وجدان اللبنانيين والسوريين الطالعين اليوم شباباً وشابات وبالأصوات والأجساد وقرابين الحرية والكرامة الدينية يحطمون المستحيل ويحترمون معجزة الإيمان والحياة المشتركة.
ثم إن البطريرك الذي لم يمثل أنماطاً نيوكلاسيكية في الكنيسة وصولاً الى تأملات لاهوتية كنسية نقدية ومع ميوله الدينية والثقافية والأدبية وباتجاهاته الى مادة عصره في بناء الجامعات حيث الساحة النقدية والفكرية والفلسفية والنقدية.
هذا البطريرك الكبير قد رسم شخصية قريبة جداً من اللبنانيين، واحتل مساحته المرموقة بين أواخر الكبار في زمنه الذين أحبهم لبنان كثيراً. شخصية قريبة جداً بكلماته ورسائله من القلب الى القلب.