Balamand Monastery

لقد سُلِّمت عصا الرعاية

لقد سُلِّمت عصا الرعاية*

 

          لقد سُلِّمت عصا الرعاية من بعد سجود للذي «يحمد حمداً دائماً على كل شيء» (أفسس5: 20). إنه افتقدنا بموداته وجعلنا نسبّح له من أعماق القلوب علّ هذه الأيام الشريرة تفتدى فنقوم من موتنا إلى ضياء المسيح. ففي مسيرة القيامة لا تبقى النفس أسيرة لذبول أو يأس. إنها، أبداً، مرحومة، مدللة. فالخطيئة ليست غلابة والروح يشفع فينا ويأخذنا إلى قلب الثالوث حيث نلقى الكون كله ونؤالف أحبة الله.

          لقد رفعنا الشكر للذي منه كل عطية. ومن أعطياته الكبرى وحدة جسد المسيح التي الروح صانعها. والوحدة تعذبها الأنواء، ولكن يبقى المنيرو الشكل المتغذون بالكلمات الخارجة من فم الله، المتقدسون بالشهادة. وبهم نستمر فلا ينقلبون إذا انقلب الزمان، وإياهم نلازم إذا امتحن إيماننا.

 

          الكنيسة التي نبتغي هي التي يُحِس أبناؤها بأنها مجرى الحياة ورجوع الفكر، والصدر الذي عليه نتكيء حتى نسمع من الأقوال ما لا يسوغ النطق به ولا يخطر في بال بشر. بهاء كنيسة المسيح إنها شيء آخر بالكلية عما يعهد الناس في دنياهم. فإذا استنرنا بالإنجيل فنحن كلمة جديدة. وإذا أصبح المؤمنون جميعاً لفتات إلى الله ترتسم طريق العودة من أحضان الدنيا إلى قلب الملكوت، وإذا بنا نستلم تلك الرؤى التي إذا نزلت تنبسط الكنيسة على تراب الأرض مائدة من السماء.

          تلك هي الكنيسة التي نشتهي. فإذا أخذنا نذوقها لا بد أن تسقط الغشاوة عن الأبصار وأن تعود المحبة نَفَساً في المؤمنين عادياً بحيث تصير كنيسة المسيح نضارة العالم ورجاء التائبين إلى إنسان جديد في كون جديد.

          هذه الجِدَّة كامنة كلها في مبرّات القديسين، في الكتاب الإلهي إذا تنـزل حلاوة وتعزيات، في الفهم الذي يأتي من الروح القدس، في إطلالات الأيقونة، في الكأس التي نحارب فيها الموت، إذا انتهى السعي إلى جمالات الدنيا ومعارفها ونظمها وكل ما فيها من خلق وجلال. إلا أن مبدأ السعي هو هذه الخميرة الإنجيلية التي تخمّر العجنة كلها. ونحن نعرف كيف تسربت نفحات الناصري إلى القلوب التي تختلج حتى تحسب دقاتها آتية من قلب الله.

          سنحاول، والنعمة تنسكب، أن نترجم ذلك عملاً، وهذا بدءاً من دمشق التي تحمل، منذ بضعة قرون، شرف أنطاكية. سموّ الإيمان وتعميقه ومدّه في الأبرشية التي نرعى هاجس لنا كبير. وهذا يقتضي حضوراً روحياً في كل بيت، وتنبهاً يومياً لحاجات النفوس، بحيث إذا شكا الأولاد من الجوع نُعِدّ من يكسر لهم خبزاً فلا يبقى لنا عذر غياب. والمسيحية، فوق كل وسيلة ومنهج، مواصلة الروح والروح، ودنوّ الشاهد من منتظر الشهادة.

          إنه، تأديةً لشهادة يسوع، قامت مؤسساتنا الملية. من همومنا تنميتها بحيث تصبح مكان المشاركة والسهر والتأهيل فيصلح الروح الإنجيلي الوثاب المقرون بالمعرفة ما يكون قد ابتُليَ بالعتاقة.

          هذا جانب من الرعاية ولكن قلب الرعاية العبادة. وأبرشيتنا تفتقر إلى كنائس جديدة تستوعب هذا المد البشري المتعاظم الذي إذا أخَذَ الإنجيلَ والذبيحةَ يذهب منهما إلى معالجة شؤون الإنسان في مجتمعه.

          وفي الآفاق كلها الكرسي الانطاكي المقدس تتشابه احتياجاته الروحية. فالضعف واحد في كل مكان والتطلعات واحدة وبدايات الرجاء واحدة. فنحن نتلمس البر حيث يظهر، لننقله إلى غير مكان. وإذا تحلَّت رعية بمزية، فالمزية لبنيان الجسد الواحد. فإن «الله صنع الجسد بطريقة تزيد من كرامة الأعضاء التي بلا كرامة لئلا يقع في الجسد شقاق، بل لتهتم الأعضاء كلها بعضها ببعض» (كورنثوس12: 24و25).

          التعاون في البشارة والحضور والخدمة الكهنوتية وكل ما نملك حتى لا يتحكم بنا الجهل والفاقة والفتور لهو الأمر الجلل لنخرج من عزلة الأبرشيات فيما بينها «لئلا يهلك منهم أحد».

          وإن توطيد الأواصر بين رعية ورعية يظهر، قبل كل شيء، إذا صار المجمع المقدس «قلباً واحداً». ولا عجب في ذلك إذا قصدنا المسيح قصداً حقاً، وامتلأنا من روحه بصادق الدعاء، وانكببنا انكباباً واحداً على إنجيل السيد وتراث الآباء وهاجس الإنسان المعاصر.

          المجمع المقدس مكان اللقاءات لخبراتنا جميعاً، وإغناء التأمل للتأمل. فالأرثوذكسية تناغمية الأسقف والأسقف لأنها شهادة الله لنفسه إذا سكن في هذا وذاك. ولكون كل أسقف يحمل إيمان رعيته فإننا إذا عانقنا الإيمان الواحد وتأصلنا ورسخنا في المحبة «أمكننا أن ندرك مع جميع القديسين ما هو العرض والطول والعلو والعمق» (أفسس3: 17و18).

          وما صح عن تكامل الأعضاء جسد المسيح يصح في الأساقفة إذا اجتمعوا متآخين حسب قول القديس قبريانوس القرطاجي «إن الأسقفية واحدة هي». فإن تعدد المواهب يستدعي التواضع الكبير واعتزاز الأخ بالأخ حتى يتجانس الرعاة بفضائلهم. والفضيلة وحدها تزكي الرعاية وتؤمن استمرارها وحسنها لئلا تصبح أداة دمار في بيعة الله.

وإذا تلقحت المعرفة بالمعرفة وتوهّج الحب بالحب تستقيم حياة الرعاة وتزدهر وتظهر وحدتهم. ويحملها ويقويها الأول فيما بينهم. والمجمعية بأصالتها هي التي عبّرت عنها قوانين الرسل وجاء فيها «إن أساقفة كل أمّة يجب أن يعرفوا الأول فيهم ويعتبروه رئيساً لهم ولا يقدموا على أمر خطير بدون رأيه… ولا يُقدِمَنَّ الأول على شيء بدون مشورة الجميع، وبذلك يتم اجتماع الرأي ويتمجّد الله بالرب في الروح القدس» (القانون 34).

فعلى صورة الثالوث المقدس يكون مجمع الأساقفة والحياة الكنسية بأسرها لتنطلق الشهادة في العالم.

وإذا تمكنا أن نحيا ذلك في كنيسة بلادنا حققنا حلم القديس باسيليوس الكبير فينا لما كتب للقديس أثناسيوس الاسكندري: «ما عسى أن يكون لكنائس الأرض كلها شيء أكثر حيوية من أنطاكية؟». نحن حيويون على قدر رصانتنا. فقد لاحظ المؤرخون كم كان المشرقيون بناة سلام وخدام انفتاح في العهود الغوابر. ولعلنا لم نقصّر عن آبائنا في الأزمنة الحاضرة. أجل، ننتظر الكثير من الأرثوذكسية العالمية في نهضتنا، ولكن كلمتنا مرجوة أيضاً. فلا غياب بالتالي عن مسرح الكنيسة الجامعة. فالإسهام، بالدراسة والحضور الدائم، بناء المسيح المديد في الزمن والمدى.

ثم يفتقد العالم المسيحي كله تراث أنطاكية. فهو حياة جديدة في النصرانية كلها. ولعل دوراً رئيساً لمعهد القديس يوحنا الدمشقي في البلمند أن يستعيد ملامح وجهنا الروحي وأن ينشئ على هذا الميراث أجيالاً من اللاهوتيين يعرفون أن يحاوروا فكر العالم. وإذا كنا متابعين الحوار مع الكنائس والجماعات المسيحية إلا أن هدفنا القريب في الحوار هو الوحدة مع الكنائس الشرقية القديمة التي تشاركنا الجذور الرسولية الواحدة والإيمان بالإله المتأنس وتعيش معنا مناخاً نسكياً وطقوسياً واحداً.

يبقى أن همنا الأول في الوحدوية هو المصالحة الكبرى مع الذين لا يُعَلّون شيئاً على الوحدة الأنطاكية. ولا شك أن التصدع حصيلة أخطاء كبيرة وكسل روحي وغياب في العمق عن التراث المسيحي الشرقي ابتليت به الأجيال السابقة. ورجاؤنا أن يعيد المسيح كنيسته إلى محبتها وفتوّتها بحيث نحس جميعاً أن عند الكنيسة الأم من اللبن ما يكفي للغذاء.

إن الحياة المسيحية المتجددة في المناهل تقودنا إلى لقاء الصدق بالله في هذه الديار. إن إقصاء الاستكبار والخوف والانطواء والصور المشوهة طريقُنا إلى سلامة المعرفة والتعامل القائم على المعرفة. إن اللقاء في العمق مع أهل التوحيد جانب من جوانب حضورنا في هذه المنطقة.

إنسان هذه المنطقة حبيبنا. نحن من هذه الأرض نطلع فنتصاعد إلى السماء. نذهب حتى جذور تاريخها ونمتد إلى غدها على مركبة الرجاء. نحن لسنا طائفة يقف همّها عند حدودها. نحن ومضة ونبض ونسغ حتى يتألق الجميع ويطمئن الجميع. ونحن على المصلوبية حتى لا ينوء أحد سوانا تحت الصليب. وإن لنا من الحب والرؤى اللاهوتية ومن ممارسة هذه البلاد ما يجعلنا نشعر بأننا لحمة بين طوائفها جميعاً.

نحن في الحضارة المشرقية العربية لون أو نكهة. ولكوننا اكتنهنا هذه الديار لا شيء يغرّبنا عنها. وإذا ما عَبَر الظلام «فالنور في الظلمة يضيء». ويقيننا أن من نزل إلى الجحيم إنما يحفظ قلبه فيه من الدنس ويصون إنسان بلده بالقيامات المرجوة.

دعوتنا هي إلى سلام متين طيب ينشأ من العدل ويقوم على التماسٍ عميق وطهرٍ في من هم عدانا، لأن الإنسان تجمّله صورته الإلهية وتُفَتِّق فيه الجمال. ولعل سكرة العنف تزول حتى نصحو إلى بناء الشعب متناسقاً في خلق كريم ومواطنية صالحة. وإذا كانت سوريا ولبنان قلب هذا الكرسي الأنطاكي وامتداده الأساسي فكل ما يجرح هذين البلدين يجرحنا في الصميم وما يعزز البلدين يفرحنا في الصميم.

نحن من هنا، من رحابة سوريا وخصبها نأتي، من أصالتها وتَوَثُّبها نأتي. نحن من مجد لبنان الذي يزهر الصدّيق كنخيله وينمو كأرزه نأتي. نحن إلى رهافة لبنان نصبو. من يعطينا أن نسهم في مسح دموعه وأن تتلاقى أراضيه ومشاعره والإنسان واحد فيه. نحن كنيسة مرمية على مدى لبنان في الدمار والتشريد والألم والموت. وإذا رتلنا الفصح أحداً بعد أحد فلكي ننهض من كبوة مع كل لبنان. ولا نريد لأنفسنا إلا ما نريده لأبنائه جميعاً أعني الكرامة والنماء وشرف الخدمة.

وإذا سار بلدانا في حياة لهما جديدة وارتبطا بالإخاء والثقة والتطلعات المصيرية فلهما القدس محجة، وهي قائمة في قلب الدنيا العربية رمزاً لحرية الإنسان من القمع والصلب. لقد أُعِدّ غير شعب عربي للذبح. ونحن نعلم أن دماء المظلومين تسيل من ذلك الجنب الواحد الذي طعن بحربة. إن كنيسة المسيح تصلي وتعمل حيث الدم يُهدر والفقراء يُضطهدون.

ومسك الختام تقدمي بالشكر باسمي وباسم المجمع الانطاكي المقدس إلى: سيادة الرئيس حافظ الأسد رئيس الجمهورية العربية السورية ومعاونيه في الحكم، وفخامة الرئيس الأستاذ الياس سركيس رئيس الجمهورية اللبنانية ومعاونيه في الحكم، وأصحاب القداسة والغبطة والسماحة، وأصحاب السعادة السفراء ورؤساء البعثات الدبلوماسية وسائر الوفود.

أخيراً أرجو الله أن يقوينا، أنا واخوتي، لكي نسلك على هذه الدروب المضيئة، فيما تصلي من أجلنا كنائس المسيح التي سلام الله عليها. فنكون هكذا مع أبنائنا في الإيمان ذبيحة حية وشهادة ناطقة على أرض البشر. آمين.

 



* الكاتدرائية المريمية، دمشق، خطبة التنصيب، 8/7/1979

You are here: Home Patriarch Igtantius IV Hazim Speeches لقد سُلِّمت عصا الرعاية