بطريرك النهضة والانفتاح
الياس الديري
البطريرك الصالح المصلح إغناطيوس الرابع يشكّل غيابه، في هذه المرحلة المشرقية الصعبة، خسارة كبرى للطائفة الأرثوذكسيَّة التي استعادها من فم حوت التفكك والتبعثر حتى التلاشي، مثلما يترك فراغاً هائلاً بالنسبة الى الدور الإيجابي العاقل والبنّاء الذي كان يُحسب له ألف حساب في الملمّات والأزمات. لبنانيّاً وعربيّاً.
إنما هذا ليس كلُّ البطريرك الذي لا يُختصر بأسطر وصفحات. فالراعي المستقيم الرأي وفّىّ قسطه لإعلاء شأن الأرثوذكس كدور تاريخي عريق على مستوى المشرق كلّه كاد أن يضيع ويتناثر. بل ضاع لوقت طويل. حتى أصبحت الطائفة المنبثقة من حضارة تمتدُّ جذورها الى ما قبل بزوغ فجر المسيحيَّة في مؤخّر الركب. وتحديداً على صعيد الحضور الوطني والسياسي والاجتماعي و... وصولاً الى عُكاظات المحاصصة، وما إليها.
أين الأرثوذكس؟ في جيب هذا المتزعِّم أو ذاك المتموّل؟ أين الطائفة التي أعطت لبنان أوَّل رئيس للجمهوريّة "استقلَّ" بالرئاسة وبلبنان المُنْتَدَب جداً؟ إنها في خبر كان.
الى أن جاء ابن محردة، وشمَّر عن ساعدي إيمانه العظيم بالثالوث القدوس، واضعاً نصب عينيه انتشال الطائفة الأولى التي اتكأت على صخرتها المسيحيّة المشرقيّة، ومهَّدت لانطلاقتها عَبْر الصحارى والبحار، وفي مواجهة غزوات الفرنجة والصليبيين وسواهم. وعلى امتداد إنطاكية وبيزنطية وسائر المشرق، بلوغاً بلاد الإغريق.
فكان له ما أراد. وما صمَّم عليه. وسهر الليالي بصحبة رفيق عمره ودربه وطموحاته كبيرنا غسان تويني، مما ترجم الحلم الى الواقع، ومهَّد للانطلاقة الكبرى من صرح جامعي شيَّده بإرادة صلبة غيَّرت وجه التاريخ والجغرافيا، مع الماضي والحاضر وللمستقبل.
ومن مركز البطريرك الذي أعيد إليه "الثقل" الذي لا يمكن تجاوزه أو تجاهله، كانت الالتفاتة الشاملة والثاقبة الى التأسيس، والتنظيم، والتحديث، ورفد الأبرشيات والطائفة والوطن بأجيال محصَّنة بالمعرفة والتنوُّر والانفتاح والاستقامة.
لم يكن البطريرك هزيم لطائفته وحدها، إنما كان لكل الطوائف. وليس للبنان وحده، بل لكل العالم العربي. ولكل القضايا العربيَّة.
كيف للأرثوذكس أن ينسوا بطريرك النهضة والإصلاح، وهو الذي نادى عليهم فور انتخابه، قائلاً بوداعة ومحبة وثقة انهضوا من هذه الاستقالة المريعة. انهضوا من هذا الاندثار الذي لا يليق بمستقيمي الرأي. انهضوا الى واجبكم، الى دوركم، الى رسالتكم، الى مشرقكم الذي يفقد إحدى رئتيه بغيابكم التخاذلي. فنهضوا، بعيداً من التعصُّب والتطرُّف، قريباً من الحوار والتسامح.
غبطة البطريرك إغناطيوس الرابع هزيم لن يستطيع الموت تغييبك، فأنت حاضر في كلّ ما بنيت وأسّست، في لبنان وسوريا والعراق والأردن وفلسطين وإنطاكية وسائر المشرق. ودائم الشروق.
نقلاً عن جريدة "النهار"