البطريرك إغناطيوس الرابع وهـــج مبـــارك ســاطـع - ايلي الفرزلي
من ينابيع إنطاكية العظمى، المدينة المقدسة، سطع إغناطيوس الرابع وهجاً. والوهج عنده صار وجهاً مجسداً بنهضة عمل على توسيعها من سوريا إلى لبنان، فإلى دنيا الاغتراب المشرقي، بلغة عربية مبينة تحرّك القلب والعقل، وترفعهما إلى وجه المعلم الذي به نتحرك ونوجد.
لم يكن بطريركاً عادياً، بل هو من سلالة الكبار، المولودين من الكلمة. ذاق أن الكلمة هو البدء، ولا بد أن يهبط على تراب المشرق العربي، فولدت جامعة البلمند، من جهاد مضن، ولكنه ممتع، إذ أنه علّم من خلالها، أن الآخر مودود بالنعمة والحق، والمسيحية الحقيقية والعربية هي التي ترعى هذا الآخر فتفهمه أن استقامة الرأي لطف وصلاح ومحبة.
القربى منه انغماس في التراث الأصيل الذي كلّف دماً وعرقاً ونضالاً حتى نكون. وتجدّد بوثبات العقل ورصانة عرف بها، ورؤى محتدمة بذكائه الحاد. كنت إذا قاربته وجدته على بساطة عرف بها أهل القرى، والبساطة فيها جمال، من دون أن يذوب منه الجلال. ولكن البساطة غلّفت عمقاً غنياً، أعانه على توطيد منهجية رعائية واضحة، وسياسية ارتكزت على الحوار مع الآخر بصفاء، ولكن من دون الإفراط بالذات... فالذات عنده لا بد وأن تلتقي مع الذات الأخرى لتبني وطناً وكياناً جديداً يصب في المواطنة.
هذا فهمه حين تتلمذ في الجامعة الأميركية في بيروت على جهابذة كبار، وغاص في لآلئه حين انكبّ على دراسة اللاهوت في معهد القديس سيرجيوس في باريس، فكان جامعاً ما بين الثقافتين العربية والأوروبية. وتكثفت الرؤى أكثر في الحوار المسكوني الذي دأب عليه مع الكنائس الأخرى. فكسب ود قداسة الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني الذي تبادل الزيارات معه، وكان لقداسته أن يزوره في الكاتدرائية المريمية في دمشق تأكيداً على تلك المودة... وحين زار البابا الحالي بينيدكتوس السادس عشر لبنان كان غبطته من بين الذين أكدوا تلك المودة الحقيقية الموروثة. وعمل على الحوار المسيحي ـ الإسلامي بشدة، مؤكداً أن هذا الحوار لا يستقيم إذا لم يسمع صوت الناس، ويشدهم تالياً إلى تأكيد المواطنة بمواجهة ثقافة التطرف النافية لكل جنس.
كان صوت العقل في الأزمات الكبرى من الأزمة اللبنانية إلى القضية الفلسطينية، إلى الأزمة السورية الحالية. القدس عنده معراج المسيحيين إلى السماء، ولبنان مدى للفرادة لا تعرفها الأنظمة الأخرى المحيطة به، وفي هذا الاصطفاف الداكن لا بد من المحافظة على لبنان كمساحة حية للحوار ما بين الطوائف، ذلك أن الحوار وحده يبيد مشاريع الحروب المتنقلة ويقيناً الانفجارات القاتلة. وشجع في الآونة الأخيرة معظم المسؤولين للعودة إلى الحوار كوسيلة حقيقية للإنقاذ... وفي سوريا التي يجيء منها ويعيش في ربوعها، دعا غير مرة إلى حوار سياسي يخرجها من هذه العاصفة الوجودية، ويعيد الاعتبار إليها كوطن له امتداداته الكبرى في العالم العربي. وفي هذا المجال قرأ غبطته في مجالسه الخاصة وفي كل تصريحاته أن الحرب ليست على نظام في سوريا بل هي على سوريا كوجود بالذات، وينبغي العمل على إعادة اللحمة إلى مكوّناتها حتى لا ينفجر المدى العربي ويصير أشلاء متناثرة. واعتبر في كل ذلك أن المسيحيين هم المكوّن الجوهري الذي ينبغي النظر إلى مستقبله انطلاقاً من تاريخانية الحضور.
في هذه الأزمة الحرجة غاب غبطته. ولكن صوت العقل لن يغيب. فسنفيء إليه دوماً مستذكرين أن المحـبة التي ذقناها عنده لا تسقط أبداً. ومهما غاب الجسد، فالوهج هو الساطع.
إغناطيوس الرابع وهج ساطع احتجب خلف الأيقونة، فكلما قبّلناها غرفنا منه، واستضأنا. والوهج وجه. ألا أبقى الله ذكره مؤبداً.
بقلم ايلي الفرزلي - نائب رئيس مجلس النواب سابقاً.