«بطريرك العرب».. من مشرق الشمس إلى قلب الله
غراسيا بيطار
تلك كانت الومضة الأخيرة للصلبان الثلاثة المستريحة على صدره. في ليلة عظيمةِ شهداء المسيحية القديسة بربارة. القمح على رأس المائدة. جلطة طائشة تقتحم العقل الروحي العروبي. القمح رمزه السنبلة التي لا تثمر إلا بعد موتها. بطريرك أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس أغناطيوس الرابع هزيم كان تلك السنبلة.
«بطريرك العرب» هو اللقب الذي رافقه منذ اعتلائه السدة البطريركية قبل زهاء ثلاثة وثلاثين عاما. يرحل في لحظة ما يصطلح على تسميته «الربيع العربي». قد يكون رحيل «غبطته» يزيد الوجع في الجسم العربي والسوري واللبناني. أليس هو من قال يوما: «إذا كانت سوريا ولبنان قلب هذا الكرسي الإنطاكي وامتداده الأساسي فكل ما يجرح هذين البلدين يجرحنا في الصميم وما يعزز البلدين يفرحنا في الصميم». وفي الإيمان، خلع ذهب العروش وقال: «الله لا يحصره كتاب ولا مكان ولا أمة».
اسمه حبيب، وهو بتعبير «مستقيمي الرأي»، الأرثوذكسيين «حبيب الرب». في مشرق الشمس، محردة في محافظة حماه، أشرقت نعمة الله على أسعد بطرس وزوجته مريم بقدوم إبنهما حبيب في 4 نيسان 1920.
تفتحت عينا حبيب على نهر العاصي لترتسم مراحل حياته بمحطات تمرد. الشعر غازل روحه في مطلع الشباب لكنه سرعان ما تمرد عليه وجعله في خدمة دعوته الكهنوتية. والده كان المعلم في الحياة وفي المدرسة. تحصيله العلمي المدرسي أنجزه في محردة ليستكمل تحصيله الجامعي في الجامعة الأميركية في بيروت وينال منها إجازة بالفلسفة عام 1945.
درس الموسيقى البيزنطية وعمل كأستاذ رياضيات في مدرسة «الثلاثة أقمار» وكمشرف عام في منتصف الأربعينيات وبداية الخمسينيات. ومن معهد القديس سرجيوس في فرنسا، حصل على شهادة الليسانس في اللاهوت في العام 1949. وفي العام 1953 أسس مدرسة البشارة الأرثوذكسية وترأسها لغاية العام 1962. في العام نفسه، انتخب وكيلا بطريركيا في دمشق، فتوجه الى شمال لبنان ليرأس دير البلمند والمدرسة الإكليريكية فيه. وللمرة الأولى في تاريخ المدرسة أصبحت صفوفها منتظمة وشهاداتها معادلة للشهادات الحكومية. بعد ذلك، حوّل هزيم الدير إلى جامعة وكان أول رئيس لها الراحل غسان التويني والثاني إيلي سالم في العام 1994.
كان هزيم قد وضع حجر الأساس لـ«حركة الشبيبة الأرثوذكسية» في سوريا ولبنان في العام 1942 و«رابطة الشبيبة الأرثوذكسية العالمية» و«المدرسة اللاهوتية» في العام 1953.
حمل البشرى الى أصقاع الأرض كافة في أوائل الثمانينيات ومثل الكنيسة في مؤتمرات عالمية عدة. فإلى جانب اللغات العربية، الفرنسية والإنكليزية، ألم بالروسية واليونانيـة. ولـه ترجمـات ومؤلفات عدة أبرزها «القيامة والإنسان المعاصر (بالفرنسية)».
انتخب هزيم مطرانا على اللاذقية في أواخر العام 1965، ثم اصبح متروبوليت على محافظة اللاذقية في 2 تموز 1979. انتخب بطريركيا على أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس خلفا للبطريرك الراحل إلياس معوض الرابع، وهو سابع بطريرك عربي يجلس على كرسي أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس. أعطي بعد انتخابه بطريركا لقب «أغناطيوس الرابع» خلفا لثلاثة بطاركة سبقوه باسم أغناطيوس، واستقر في دمشق مقر البطريركية التي تشمل نفوذها الروحي سوريا ولبنان والعراق والكويت وأميركا الشمالية والجنوبية وأستراليا وبقية بلدان الاغتراب.
توقف القلب «المستقيم النبض» عن عمر ناهز الـ92 عاما. زعيم «مستقيمي الرأي الأرثوذكسيين» في الشرق رفع في حياته صوتا لا يجرؤ أي قلب على حمله إلا «بطريرك العروبة الإنطاكية». جهارا أعلن التزامه بقضية الشعب الفلسطيني «كجزء من عقيدتنا». برأيه، «جميع المشرقيين، من مسيحيين ومسلمين كانوا سواسية أمام الغزو الصليبي مثلما هم اليوم سواسية في مواجهة العنصرية الإسرائيلية ومن هنا شجبنا للعنصرية بكل جوانبها التي هي النقيض الكامل لمعنى القدس وروحها».
ذهب هزيم أبعد من ذلك، معتبرا أن «السياسة الأميركية لم تأتنا بالحلول بل بالمشاكل» و«أوروبا وأميركا تحاولان تهويد المسيحية». وبنفس مسيحي مقاوم قال في العام 1985: «يجب ألا نترك الإسرائيليين يرتاحون في شبر من أرضنا. المسيح فلسطيني من بيت لحم والمسيحيون عرب»، مضيفا: «نحن من يجب أن نخاف فلدى غيرنا قوة نووية ونحن عزل. من الغباء توقع الخير من الإسرائيليين، فالمسيح ليس إبن إسرائيل العدوان». وهو قال في اختتام أعمال المجمع الإنطاكي في دير البلمند منتصف تسعينيات القرن الماضي: «القدس هي العاصمة الدينية للمسيحية».
عرف هزيم بعلاقته الوطيدة مع الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد. وجه اليه يوما كلمة قال له فيها: «لبنان بين يديك ولبنان يحتاج الى أن تتغـير فيه أمور كثيرة وأنت يا سـيادة الرئيـس أعـلم الكل بهذا الأمر». وقال في رثائه: «كانت الرئاسـة لك ثوبا حقيـقيا يليـق بك وأنت تليق به». وتوجه في أربعين الرئيس السوري في القـرداحة الى وريثه بشـار قائـلا: «كن من أنت وإبـق كمـا أنـت وإهنـأ بما أنت».
في بداية الأزمة السورية، قال هزيم عن الأسد إنه «صادق ولا أحد يستطيع تهجير المسيحيين». وفي عز الأزمة، أطلق نداء استغاثة إلى المجتمع الدولي قائلاً «إن ثمة حاجة ماسة لوقف جميع الأعمال العدائية من جانب كل الأطراف في سوريا». وطوال الأزمة، كان يُسأل: «أنت مع من؟»، فيجيب «لا مع يزيد ولا مع عمر. الصغار ليسوا هم من يغيرون الواقع». لم يضع البوصلة يوما. فالقدس حاضرة في عظاته وكتاباته: «القدس ليست الأماكن المقدسة فقط. إنها الشعب المهجر أيضا. القدس بالنسبة الينا مثل مكة للمسلمين ويجوز أن تكون يهودية بأي صورة من الصور».
في أيار 2001، وقف هزيم في مقدم مستقبلي البابا الراحل يوحنا بولس الثاني في زيارته الشهيرة الى دمشق. ولمع على صدره مؤخرا وسامان: «الوشاح الأكبر» من رئيس الجمهورية ميشال سليمان ووسام القديسين بطرس وبولس خلال تكريم عصام فارس له.
كثيرون ممن أحبوه يتذكرون في غيابه كلمته الشهيرة لدى اعتلائه السدة البطريركية: «أعلم بأنني سوف أحاسب إذا لم أحمل الكنيسة وكل واحد منكم في قلبي. كما أنه لا يمكنني أن أخاطبكم إذا كنت مختلفاً عنكم، لا فرق يفصل بيننا، أنا جزء لا يتجزأ منكم، أنا فيكم وأطلب منكم أن تكونوا فيّ. الرب يأتي وتحل روح الأخوة التي تجمع بين الأمم بالقربان المقدّس بقوة الروح القدس».
غراسيا بيطار