بطريرك العمل بالرؤية الانطاكية المشرقية
رفيق خوري
ليس بالحزن العميق والنبيل وحده نواكب رحيل الكبار. ولا باللقب وحده استحق بطريرك انطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس اغناطيوس الرابع هزيم أن يحمل في الحاضر كل ما كان في الماضي من قيم ورموز وروح وتراث للانطاكية المشرقية. فمن فقدناه في الزمن الصعب هو الأب الذي أخذنا، بالحق، الى جوهر الحقيقة في الشرق، وأكمل الطريق الى أبيه السماوي. وما نفتقده هو إكمال المسار الذي طبع حياتنا وأغناها بمسيرة روحية وزمنية غير عادية ولا حدود فيها للعمل الذي يجسد الرؤية المستقبلية، وللرجاء الذي يحصن الرأي في مواجهة الظلم والظلامية.
الكبير الذي رحل أمس ترك وراءه رحلة طويلة فيها من الواقعية والاستشراف ما جعل حياتنا أفضل، ومن الأسطورة ما يعطي الفقراء والمساكين الأمل والقدوة في تجاوز الحواجز. رحلة صبي فقير جاء من محردة الى بيروت، ليتعلم ويخدم في الكنيسة قبل أن يصبح شماساً، ويسافر الى باريس لإكمال تعليمه الديني ليصير أسقفاً، ثم بطريركاً كرسيه في دمشق وهواه في بيروت التي أسلم الروح فيها.
لم ينسَ جذوره، لكن غصون الشجرة وثمارها كانت في الأفق المشرقي كله. شجرة المعرفة والثقافة والتواضع والايمان. وما أكثر ما أنجزه. جامعة البلمند واحدة من أفكاره التي تحدت كل المصاعب. سُئل حين بدأ مشروع الجامعة: هل نحن في حاجة الى جامعة في لبنان المملوء بالجامعات، وخصوصاً الى كليات للتاريخ والآداب؟ وكان جوابه: المسألة ليست كمية بل نوعية، ونحن لدينا رؤية لقراءة التاريخ واستقراء المستقبل. ولعله كان يطبق قول انشتاين: علم بلا دين مشلول، ودين بلا علم أعمى.
كان البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم تلميذ توما الاكويني القائل إن محبة الحقيقة لا يمكن أن تُترجم الا بمحبة العدالة. وهو جمع الصفات التي حددها جيفرسون بالقول: الرؤية هي معرفة ما عليك فعله، والحكمة هي معرفة كيف تفعله، والفضيلة هي أن تفعله. حتى في سنوات الشيخوخة، فإنه ظل يعمل بعزيمة شاب يرفض التسليم بأن الشيخوخة حطام سفينة غارقة حسب الجنرال ديغول.
المسيحيون بالنسبة اليه ليسوا جالية بل الأصل في الشرق، ومصيرهم مرتبط بالانخراط مع المسلمين في الاطار الوطني والقومي الديمقراطي. وهو يرحل في أصعب تحديات تواجه وجود المسيحيين ودورهم الوطني مع المسلمين، حيث تلتقي فرص الربيع العربي ومخاطر السلطات الدينية الاستبدادية. ولا عزاء لنا إلا بإكمال المسيرة التي آمن بها وعمل لها البطريرك الراحل.