رحيل المشرقي الأصيل ذات لقاء مع البطريرك الكبير
08 / 12 / 2012
الرجال لا تقاس بالأعمار. إنما تقاس بالمواقف. ويلتقي الشاب والكهل والمتقدم في العمر عندما يكونون رجال مواقف... والمثلث الرحمات غبطة البطريرك هزيم كان رجل المواقف
التي يمكن إختصارها بالآتي: المسيحيون متجذرون في هذه الأرض. «الإسلام ضيف علينا» (أي على المسيحيين) باعتبار أن المسيحية سبقت الإسلام بأكثر من ستة قرون. وإن للإسلام حقاً في أن تكرمه المسيحية كما يفترض بالمضيف أن يكرّم ضيفه. كان رسول الوحدة المشرقية، بين أهل هذه الرقعة من الأرض التي منحت البشرية دياناتها السماوية الثلاث التي أُنزلت هنا... لم يعرف التعصُب إلى قلبه سبيلاً، ولا البغضاء، ولا الحقد.
عرفته للمرة الأولى في مؤتمر القمة الإسلامي في الطائف، يوم حلّ ضيفاً على هذه القمة التي كانت مقررة في مكة المكرّمة (عام 1981) ثم نقلت الى الطائف بعدما تدارك المنظمون الموقف إنطلاقاً من وجود الرئيس اللبناني المسيحي (يومذاك المرحوم الياس سركيس) والبطريرك هزيم وبعض أعضاء الوفود غير المسلمين. وكنت يومها عضواً في الوفد الذي شكّله رئيس دولة الإمارات المرحوم الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان. وقد أذهل غبطته المؤتمرين بروعة وخطورة وأبعاد خطابه المشرقي الوحدوي، وبثقافته الشمولية، وبأفكاره السمحاء...
كان عليّ أن أنتظر أكثر من أربع سنوات (أواخر العام 1985) لألتقيه ثانية، وكنّا قد إتخذنا موعداً مع غبطته لصاحب جريدة «الجمهورية» (حديثة الولادة) المحامي إلياس المر ولي شخصياً (كوني كنت المدير المشرف على إصدارها وتحريرها). وفي الوقت ذاته حُدّد لنا موعد مع نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدّام في الساعة الواحدة بعد الظهر، على أن يكون الموعد مع البطريرك هزيم الساعة الثالثة من بعد الظهر.
في تلك المرحلة كانت الحرب مشتعلة بين «أمل» والتقدمي الإشتراكي وكانت تسجل من الضحايا والدمار ما لم تعرفه حرب لبنان من قساوة حتى ذلك الحين. وحدث أن كان خدّام يعقد إجتماعاً (... طال كثيراً) مع نبيه بري ووليد جنبلاط وأركانهما... فاتصل معتذرا ومتحدثاً بكلام قاسٍ عن المجتمعين في مكتبه طالباً تأخير اللقاء إلى الثالثة... أي إلى الموعد المحدّد مع البطريرك هزيم. ولم يطل الأمر بالأستاذ إلياس المر (نائب رئيس مجلس الوزراء لاحقاً) حتى توصّل إلى حل سريع. قال لي: نذهب الى المقر البطريركي ونصارح غبطته بالتعديل في الموعد، فإذا وافق نعقد اللقاء معه عند الواحدة، وإلاّ نؤجله إلى يوم آخر.
وهكذا كان. فقصدنا غبطته الذي وافق على التبديل في الموعد بينه وبين خدّام، وحصلنا منه على ما أجزم بأنّه أخطر حديث صدر عنه في حياته كلها، وربّـما أخطر حديث صدر عن مرجعية دينية مشرقية... واعتُبر الحديث، في الرئاسة السورية، بأنّه المسمار الذي دُق في نعش «الإتفاق الثلاثي» الشهير(بين أمل والإشتراكي والقوات). وقامت القيامة. وأصرّوا عليه، بطلب مباشر من الرئيس الراحل حافظ الأسد أن ينفي، فلم يفعل، فنشروا نفياً عن لسانه نشر في «السفير» وآخر في وكالة الأنباء الصحافية... فأوضح إنه أدلى بما أدلى به، متداركاً أنّ الصحافي الذي عقد الحديث معه إعتمد «الفن الصحافي» فلم يلتزم بالسرد كما ورد إنما قدّم الفقرات وفق حسّه الصحافي... وقد قبلتُها منه على أي حال. إدراكاً مني للضغط الهائل عليه ولأنه رفض، مع ذلك، النفي.
وخلال الجلسة معه قال، رحمات الله عليه: يا أحبائي... كل شيء هنا، (في المطرانية) فيه آلة تسجيل تنقل الوقائع للنظام: هذا الكرسي (الذي كان يجلس عليه) فيه آلة تسجيل. في هذه الثريا (ونظر الى فوق) فيها آلة تسجيل. هذا الكاهن (وأشار إلى رجل دين كان يقف قرباً منّا) فيه آلة تسجيل (...)
(...) وعندما إنتقلنا إلى مقابلة خدّام قال وهو يغدق علينا الكثير من القبلات: «إبن (...) قال لكم إن آلات التسجيل موجودة؟!» وكان التسجيل قد سبقنا فعلاً إلى أبي جهاد!
خليل الخوري / الشرق