رحيل بطريرك "الحكمة والرصانة والتفاني"
كارلا خطار
جاء الى لبنان في أوج الحرب وغادر عرشه البطريركي في عزّ الحرب السورية، هو بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس أغناطيوس الرابع هزيم، الذي يصفه كل من يعرفه بـ "رجل الحكمة والرصانة والتفاني". صحيح أنه غياب بفعل عامل العمر الذي يناهز الـ 92 عاما، إلا أن الجلطة الدماغية التي أصيب بها أول من أمس، خطفت رجل المواقف الحكيمة الذي حكى كلمة حق حين كان اللبنانيون بحاجة الى سماعها، ووقف الى جانب البطريرك الماروني السابق مار نصرالله بطرس صفير في أحلك المراحل وتحديدا في أوائل التسعينيات.
هو فرد من عائلة تتألف من 8 أشخاص. وُلد في 17 نيسان 1920، في بلدة محردة السورية. سمي المولود الجديد باسم "حبيب". وبما أن "حبيباً" كان الولد البكر، فإنه كان يتمتع بمكانة مميزة في هرمية العائلة. الوالد أسعد وزوجته مريم شحادة رزقا بثمانية أولاد. ربّى الوالد حبيباً على أن يفخر بنفسه وبالاسم الذي يحمله. كان الابن معجباً بأبيه. كان الوالد معلماً وعنده تلاميذ، فأراد الابن أن يكون معلماً وأن يكون عنده تلاميذ أيضاً.
في سن الخامسة عشرة (1935) ترك الشاب حبيب، وللمرة الأولى، محردة وحده. ذهب الى حمص ومنها الى طرابلس ليصل الى بيروت حيث التقى مطرانها المتروبوليت ايليا الصليبي الذي طلب اليه أن يرتدي الغمباز ويلتحق بمدرسة "الثلاثة الأقمار"، وكان وحده الذي يرتدي الغمباز والوحيد الذي لا يتكلم الفرنسية. من مدرسة "الثلاثة الأقمار" أرسل الى الانترناشونال كولدج، وهي ثانوية في رأس بيروت تعدّ تلامذتها لدخول الجامعة الأميركية في بيروت. تميّز حبيب في هذه المدرسة وكان اسمه دائماً على لائحة الشرف. في تلك المرحلة رسم شماساً في العام 1941. في العام 1942، أسس الشبيبة الأرثوذكسية بين سوريا ولبنان، والتي تمت عن طريقها المساعدة لتنظيم وتجديد الحياة الكنسية في بطريركية أنطاكيا.
في العام 1943 التحق حبيب، وكان قد أصبح شماساً، عضواً في الهيئة الاكليريكية بكل ما للكلمة من معنى. وعلى الرغم من أنه كان محباً للرياضيات بشكل خاص، اختار الالتحاق بكلية الآداب التي كانت تشدد على الفلسفة والتربية. كان لامعاً لدرجة انه حصل على منح تعليمية خوّلته أن يتابع تحصيله العلمي مجاناً طوال مدة دراسته. بعد أن أنهى الشماس دراسته بتفوق في الجامعة الأميركية في بيروت، أرسله المطران ايليا (الصليبي) الى معهد القديس سرجيوس في باريس. كان معهد القديس سرجيوس روسياً صرفاً.
أسس هذا المعهد اللاهوتي في باريس الروس البيض الفارون من النظام الماركسي اللينيني الذي كان يتحكم بروسيا. كان المعهد يضم نحو اثني عشر مفكراً روسياً ارثوذكسياً في مجالات اللاهوت، والفلسفة، والأدب، والاقتصاد. ومع أن الشماس اغناطيوس كان يحمل إجازة في الفلسفة من الجامعة الأميركية في بيروت، إلا أنه أحس بالحاجة الى أن يعمق دراساته في الفلسفة والتاريخ واللاهوت. كانت الإجازة الجامعية في اللاهوت الارثوذكسي تتطلب أربع سنوات من الدراسة في معهد القديس سرجيوس.
وفي العام 1953، ساعد في تأسيس رابطة الشبيبة الأرثوذكسية العالمية والمدرسة اللاهوتية. وبعد أن أكمل دراسته في باريس في العام نفسه، عاد اغناطيوس الى بيروت، فعيّنه المطران ايليا الذي كان قد أرسله الى الخارج لإكمال علومه مدرساً في كلية البشارة في بيروت، ورسمه كاهناً، وأعطاه فوراً رتبة أرشمندريت. وفي العام 1954 أصبح اغناطيوس مديراً لكلية البشارة التي أصبحت بعنايته تضم صفوفاً حتى البكالوريا.
في العام 1961 انتخب الأرشمندريت اغناطيوس مطراناً، وعيّن وكيلاً بطريركياً، وكان عضواً في مجمع الأساقفة المقدس، لكنه لم يكن مرتاحاً في مهماته الإدارية في البطريركية. فطلب من البطريرك ثيوذوسيوس أبو رجيلي أن ينقله الى دير البلمند في شمال لبنان، وهكذا كان.
وصل المطران اغناطيوس الى البلمند في صيف 1962. وعمل بنشاط كبير لتغيير وضع الدير المتردي، وأعاد إحياء مدرسة البلمند التي كانت قد تأسست بفرمان عثماني وحوّلها بسرعة الى مدرسة ثانوية. أما تأسيس معهد اللاهوت في البلمند فقد كان الإنجاز الأهم. في العام 1970 انتخب "ميتروبوليت" على محافظة اللاذقية في سوريا. وعندما شغر منصب مطران اللاذقية طلب من المطران اغناطيوس أن يشغل هذا المنصب. بعد وفاة البطريرك الياس الرابع سنة 1979، انتخب المجمع المقدس لبطريركية انطاكيا الارثوذكسية المطران اغناطيوس بطريركاً على كنيسة انطاكية للروم الارثوذكس في 2 تموز من العام نفسه وكانت تلك المحطة الأبرز في حياته. واتخذ البطريرك اسم اغناطيوس الرابع، ثلاثة من البطاركة الذين سبقوه اتخذوا اسم اغناطيوس. هو سابع بطريرك عربي على عرش انطاكية بعد عدد كبير من البطاركة اليونان.
لقد حقق البطريرك اغناطيوس الرابع هزيم انجازات كبيرة في بطريركية انطاكية. ولعل أحد أهم الانجازات تأسيسه لجامعة البلمند. فبعد أن تكونت في البلمند ثلاث كليات جامعية، صدر في الرابع من حزيران 1988 مرسوم يسمح للبطريركية الانطاكية الارثوذكسية بإنشاء جامعة البلمند. وبصفته البطريرك الأول والوحيد، في سلسلة البطاركة المئة والخمسة والستين الذين تعاقبوا على عرش انطاكية، الذي أنشأ جامعة، شعر البطريرك اغناطيوس الرابع أنه حقق حلمه وحول هاجسه الى حقيقة. واليوم، وبعد أن كان عدد الكليات ثلاثاً أصبحت جامعة البلمند تضم تسع كليات. ومن أصل مبنيين ونصف صار لديها خمسة وثلاثون مبنى. اما المدينة الجامعية التي كانت تشكل 20000 متر مربع فقد صارت الآن ممتدة على مساحة 500000 متر مربع، وتوسعها البيروتي على قدم وساق. اما عدد طلابها فهو يزيد على أربعة آلاف.
البطريرك اغناطيوس الرابع هو، فكراً والتزاماً عملياً وتطلعاً، مشرقي وعربي أصيل. وهذا يترجم ما كتبه "نحن كنيسة الشرق، شرقيون مئة في المئة. آمالنا هي آمال منطقتنا، ومأساتها مأساتنا، إن كان هناك من مأساة (..) نحن مسيحيون عرب. كنا هنا في فلسطين وسوريا ولبنان قبل الإسلام بوقت طويل. عندما احتل العرب الحاملون رسالة الإسلام هذه الأرض، تعاونّا معهم، وساهمنا كثيراً في بناء الحضارة العربية الإسلامية. كنا الوسيط الفكري والعلمي بينهم وبين العالم الاغريقي. لكننا لم نكن فقط وسطاء، بل كانت لنا مساهماتنا في شتى الميادين".
وكونه من بلدة محردة السورية، لم يمنعه من الوقوف الى جانب اللبنانيين والحرية والعدالة، فقد كان البطريرك هزيم مقتنعا بأن "الشرق الأوسط إن تزعزع من أقاصيه الى أقاصيه فإن لبنان لن يتزعزع". وفي الآونة الأخيرة، دأب على شدّ أزر المسيحيين قائلا "أتمنى ألا نخاف شيئا وأن نحب البلد والإخوة. نحن ليس لدينا سلاح، نحن جماعة تجمعها الشراكة الروحية، الشراكة التي تنفتح على أهلها وعلى جميع الذين يعيشون معها. نحن نحب شعبنا ولأننا نحبه لا نخاف من شيء، وأتمنى ألا نصل إلى اليوم الذي نترك فيه هذه المنطقة التي نحن موجودون فيها قبل غيرنا، والتي باركها الرب يسوع بعيشه فيها".
كان البطريرك هزيم يرى في الأكليريكي أباً وليس موظفا، فالمطران بالنسبة إليه هو "بمثابة أب لرعيته ومن لا يحترم أباه لا يستحق أن يكون في عائلة". كان يتطلّع دوما الى الأفعال ولا يكترث للأقوال، لذا فما لم يكن يقوله بلغة الكلام كان يعبر عنه بلغة الصمت، لغته التأملية العالية الممزوجة بالعفوية التي تنم عن غاية في التواضع.
والبطريرك هزيم هو الوحيد في سلسلة البطاركة المئة والخمسة والستين الذين تعاقبوا على كرسي انطاكية الذي أنشأ جامعة، وهي جامعة البلمند انطلاقاً من أن روح انطاكية هي روح رسولية- إنسانية وهو الأول الذي لطالما ردد "نحن المسيحيون العرب، كنا هنا من فلسطين وسوريا ولبنان قبل الإسلام بوقت طويل". أما الشخصية الأبرز في الكنيسة الارثوذكسية المعاصرة، فلم يكتب عنها إلا القليل القليل، أو أنها هي لا تريد ان تصرح إلا بالكلام القليل القليل.
ففي كتابه "من محردة الى عرش أنطاكيا"، يرسم الوزير الأسبق ورئيس جامعة البلمند منذ العام 1993 وحتى اليوم الدكتور إيلي سالم "بورتريه" معبرة جداً وحساسة عن شخصية البطريرك الإصلاحية وهي ما يشبه السيرة أو ما يشبه المحاولة والتجريب في الاقتراب من الرمزية الحداثية والمعاصرة في شخصية البطريرك الذي يجمع الضدين الكبيرين التاريخ والحداثة في نقاط جذب وجودية على أرض واحدة وفن في السياسة، وأي فن، اخراج ذي هدف.
ترفّع البطريرك عن الماديات حين قال معلّقا على الثورات في الشرق الأوسط "اننا جميعا مسؤولون معنويا عما يحصل في المنطقة وحولها. وبما أنه لا مصالح لنا في كل ما يدور، علينا العمل لكي تعمّ مشاعر المحبة والسلام لكي نتمكن من الانطلاق بثقة في عمل يوصلنا إلى المستقبل الزاهر الذي نتوق إليه جميعا"، مشدداً على "أننا ككنيسة نعمل من أجل الخير والحق والسلام ونسعى جاهدين لكي يحصل أبناؤنا على حقوقهم، كما نسعى الى أن نعمل مع إخوتنا جميعا في لبنان من أجل خير لبنان وبنيه".
وكان البطريرك يتطلّع الى المستقبل من خلال المحافظة على التاريخ مصرّحا "لذلك طلبت ان يكون لدينا اهتمام بالتراث الكتابي في الكرسي الانطاكي". في تحليلاته، أعطى البطريرك هزيم مقاربة متقدمة تجاوزت الهواجس والمخاوف، وتقدمت نحو شراكة مع أبناء الوطن على أساس المساواة وعدم التمييز وتعزيز ثقة المسيحيين بوجودهم وإمكاناتهم في المبادرة وإيجاد الحلول وإحلال السلام. استطاع البطريرك هزيم من خلال هذا الموقف أن يعيد التوازن إلى المشهد. وحفلت خطاباته بلغة المبادرة والثقة بقدرة أبناء الكنيسة على العمل من أجل السلام والمبادرة، حيث دعا "أبناءنا الأرثوذكس إلى المساهمة الفعالة في ابتكار الحلول الناجعة للخروج من الأزمة وولوج طريق الازدهار والتقدم لأوطانهم"، من دون أن يميز بين أبناء سوريا ولبنان، لا على أساس ديني ولا على خلفية طائفية، وبهذا يكون البطريرك هزيم قد خرج من دائرة الخوف والانعزال إلى الانفتاح على الدور والفعالية في هذه المتغيرات الكبرى التي يشهدها العالم العربي. فقد اعتمد البطريرك هزيم لغة الشراكة وابتعد عن الفزر المذهبي والديني، مناديا بـ"بناء دولة المواطنة على قاعدة مساواة الجميع في الحقوق والواجبات، وفي ظل قانون يخضع له جميع أبناء الوطن من دون تمييز".